mysteriouseve
هنا، ألوذ في هدأة هذا الليل براحةٍ من قيظ النّهار. هنا، أحوك في الفكر خواطر، وأولّد على الشّفة بنات. هنا، ابتسامات حنين ترجّع صدى طفولةٍ نائية، وقصص حبّ طواها الزّمن. هنا، حلمٌ بغدٍ أجمل
قرارات جديدة


كم السّاعة الآن...
كم مضى على افتراشها سجّادة غرفة الجلوس... هكذا... إزاء المدفأة... وحدها في العتمة؟
لم تكن نائمةً حقاً. عمّا قريب، اليوم الأخير في العام. فكّرت في أهمّ قراراتها للعام الجديد. كانت قد وعدت زميلتها، على مضض، بعد نقاشٍ مطوّل، أن تحاول التّقليل من استخدام الشّدّات. كأن تكتب مثلاً "المعهد الدولي" عوضاً عن "المعهد الدُّوليّ". تنظر إلى السّقف. تغمض عينيها ثانيةً، ثمّ تغرق تحت الغطاء. لا، لا تنام. شقّ عليها فقط أنّ الكفّ عن الشّوق إليك ليس صعباً كالامتناع عن كتابة الشّدّات.
أبيض وأسود


تشبه فيلماً طويلاً، شاهدتُه قبلاً..

في وجهك عددتُ قطرات مطرٍ سقطت ليلاً
وشاهدت بطلين يركضان بلا مظلة
أخشى أن يبلغا محيط جفنيك
فتزلّ قدماهما
ويسقطان
كشهقةٍ
فوق شفتيك

أوشوشك في فمك
كي يبحرا على متن همسة




لمَ لا تردّني خائبةً مرّة
كلّما طلبتُ منديلاً ورقيّاً
لأمسح الغبار في عينيّ ووجهي
وصدراً به أرتطم
أنا التي جسدي حفنةٌ من المسامير
لو مرّةً لا تخبّىء لي في جيبك
طيّاراتٍ من ورق
لربّما...
ظهرت كلمة النّهاية كما انتظرتها
وزاولت مهنة الهرب
من غير اشتياق



تشبه فيلماً قديماً، أحببته قبلاً
ألم يحن أوان الرّحيل بعد. .
حدا شاف فرج؟
بدعوة من الصّديق زيزو






والله يجيبك يا فرج... رغم اللي ما بدّهم فرج يجي.

عسل يا بطّيخ

تحديث عن الوضع العام: التّطنيش عموماً يبقى سيّد الحلول.

إذا كانوا مصرّين على "تنغيص عيشتك"، ما عليك إلا أن تطفىء جهاز التّلفزيون، وتنعم بموسم الأعياد!

وبطّيخ يكسّر بعضه!

على ذكر البطّيخ، تأمّل جيّداً في الصّورة، واعثر على كبيس البطّيخ.

همممم.... يا ترى مين اللبيب اللي خطره يعمل كبيس بطّيخ؟ من اغتال البطّيخ ليصنع منه كبيساً؟ هل ستقيم بقيّة أنواع المخلّلات الاعتصامات احتجاجاً على الكبيس الجديد؟ هل كبيس البطّيخ يسبّب عسر هضم؟ مع أيّ الأطعمة يستهلك هذا الكبيس؟ دخلكن طيّب كبيس البطّيخ؟

أسئلة مطبخيّة.

طبعاً.




أعياد مجيدة.. إذا سمحولنا
يعني... في حال


- شو! مش حَ نتخانق بقى؟
- بدّك نتخانق؟!!
- إيه. مبلى. نتخانق.
- هلّق كل الشّعرات اللي شابوا من وقت ما عرفتك ما بتدخل بمضمار الخناقة عندك؟
- لأ. قصدي خناقة حقيقيّة. من كعب الدّست. من هول الخناقات اللي بحبّهم قلبك..... قصدي بيكرههم قلبك.
- بعدني ناطر تفسير!!
- لأ، ما شي. كنت بس عم بسمع غنيّة عجبتني. فناطرة أوّل خناقة حتّى إهديك ياها.
- قولك مفروض إشعر بالإطراء هلّق؟



هذا هو إذاً



يخبرني أنّ المدوّنات حافلة بالعقد النّفسية، ورويداً رويداً يسحبني بعيداً عنها.
يقول إنّه لا يريد أن يعرف عنوان مدوّنتي.
لا، لا يمزح.
أخال أنّني سأتمكّن من الكتابة على سجيّتي.
وحده لا يقرأ.
ما الداعي إلى الكتابة إذاً.
إحساس طفوليّ.
أن تمسك بالقلم فلا تعرف أن تقول إلا العالم أجمل.
حبيبي يطلب منّي أن أنسى العالم وأنام في قلبه.
طباق عصريّ
الطّباق هو الجمع بين الشّيء وضدّه في كلامٍ واحد. كأن تقول مثلاً: اللّيل والنّهار، الأوّل والآخر، الميت والحيّ إلخ. وهو فنّ من فنون البلاغة، منه الإيجاب ومنه السّلب، منه الحقيقيّ ومنه المجازيّ، يصبّ في باب المحسّنات اللّفظية (أو المعنويّة كما يرد في بعض الكتب)، ويرمي إلى إحداث الوقع والتّأثير في نفس السّامع أو القارىء؛ ومن هنا يسعى الكاتب أو الخطيب إليهما سعياً حثيثاً استحصالاً لأثرهما المشهود في تحسين الموسيقى الجماليّة.

لا تعجبي يا سلم من رجلٍ
ضحكَ المشيبُ في رأسِهِ فبكى

وإلى جانب هذا المثال المستمدّ من كتبنا القديمة على لسان الشّاعر الكوفيّ دعبل الخزاعيّ، لا مانع من إيراد مثالٍ آخر نقطفه حديثاً، لا لشيءٍ ولا لنيّةٍ مضمرة اللّهم إلا تسليط المزيد من الضّوء على هذا المفهوم اللّغويّ البليغ.

يعني مثلاً أن يرد في نصّ واحدٍ جملة من التّعابير المماثلة:
"أيّها القتلة، أقول لكم نحن بالدّم سننتصر على سيوفكم... هم يقتلوننا... دمنا لو سفكتموه... لو تآمرتم علينا... لو قتلتم أحمد محمود... لو قتلتم ألفا مثل أحمد محمود... عندما قتلوا الشّهيد أحمد محمود... وتقتل الشّهيد أحمد محمود... مديح إسرائيليّ يوميّ للفريق الحاكم في لبنان... إلخ إلخ."

مقابل شيءٍ من هذا القبيل:
آه، نعم... نرفض الفتنة المذهبيّة والطّائفية في لبنان!

عند هذا الحدّ، آمل سيّداتي سادتي أن تكون وقفتنا اللّغويّة اليوم قد عادت إليكم بالفائدة، على أمل اللّقاء في الدّرس التّالي "الجناس".

بالمناسبة.

الفيرجن في منطقة الدّاون تاون يدرس جديّاً احتمال إغلاق فرعه هذا. ومن يلومه، فبين التّحاور والتّظاهر والتّشاور والاغتيالات، أيّام إغلاق الأبواب باتت تفوق أيّام العمل بأشواط.

يبدو أنّ اللّبنانيّين مصنّفون، حسب الخطاب المذكور، إلى "أشرف النّاس، وأطهر النّاس، وأحبّ النّاس، وأعزّ النّاس" من جهة، وناس لا يساوون فردة حذاء من جهةٍ أخرى.

لن أتكلّم عن غيري، ولكنّ شعوراً مزعجاً انتابني شخصيّاً من طريقة اللّعب بورقة "الشّهيد أحمد محمود"، مع إغفال طوابير الاغتيالات التي استهدفت وتستهدف لبنانيّين آخرين. أما سئمَ السياسيّون لعبة الحقن؟

بالمناسبة أيضاً.
لسائقي سيّارات الأجرة الذين يحاولون إيصالي إلى وجهتي كلّ صباحٍ- ومن بينهم ذاك الذي أخبرني أنّه حاول الانتحار قبل أيّام ورحت أطمئنه بشكلٍ تافه ويرثى له ويثير الشّفقة، والآخر الذي لا يريد لا شهادة ولا حقيقة، بل أن يعيش فقط- في بالي أغنية أدندنها منذ الصّباح. لكن يعني... تخيّلوا أنّكم تسمعونها، لأن البحث عن رابطها الالكترونيّ باء بالفشل. أو في حال عثر عليها أحدكم، فليتبرّع لي بالرّابط مشكوراً. على كلّ حال، "مع الوقت، بتنسى" – خالد الهبر-
بس ضْحاك عليّ



ثلاثة لا يمكنك أن تصارعها. أرضك وولدك وحلمك. فحتّى لو هزمتها، أو أنكرتها، أو سحقتها، والأرجح أن تفعل، تبقى دوماً الخاسر الأكبر في النّهاية.

اللّيلة أريدك أن تضحك عليّ. كطبيب أسنانٍ مزيّف في إعلانٍ تلفزيونيّ. كمذيع الطّقس والغيث الذي لا ترسله سحابة الغد. كأمٍّ تجيب طفلتها أنّ الأولادَ يسقطون سهواً من طيورٍ تائهة، ويأتون إلى العالم على شكل هدايا، عند العتبات. الليلة لا تطلب منّي أن أحترس عند الخروج. لا تنبّهني إلى أنّ التّسكع ليلاً بات مصدر خوفك عليّ، وأنّ الطريق إلى بيتك لن تمرّ بجولةٍ، ننسج فيها حكايا وحكايا عن روّاد تقاطعنا الثّلاثيّ بين وسط المدينة ومونو و"فلافل صهيون". لا ترسم على وجهك هذه البسمة الكئيبة. لا تقل إنّك تريد أن ترحل من جديد. لا تجرؤ. لا تخبرني أنّك مللت، أو يئست، ولا أنّهم اغتصبوا أحلامك أو أنّ المكان ليس مكانك. لا تتأمّلني كأنّها النّهاية. أشعر بالغثيان من جرثومة النّهايات غير المكتملة.. المصابة بإعاقاتٍ خلقيّة. إسمعني دونما احتجاج. لا تبالِ. دعهم. الليلة أريدك أن تدعهم. يهدّدون. يخوّنون. يتلاعبون بك. يسحقونك كصرصار وضيع. يقرّرون بدلاً عنك. يزجّونك في اللّعبة. لا يهمّ. أريدك أن تبقى هكذا. هكذا. كما في هذه اللّحظة. ضاحكاً عليّ، مطمئناً إيّاي، ممسّداً على شعري، ململماً ما يفلت من تنهيداتي. لا يهمّني إن كانت البلاد رأساً على عقب... إنسَ صفّارات الإنذار. إنسَ الشّوارع المغلقة والمقاهي الفارغة. أخبرني فقط أنّك ستصحبني اللّيلة لنسهر في بيروت، دون سيّارتك أو سيّارتي، دون حقيبتك وترقّبي، دون العوائق والقيود، أنا وأنت وكلّ تفاهاتي...
لازم نغيّر الدّيكور



كلّ صباح، أدنو من الشّرفة. أرفع السّتائر في المكتب. مبنى "النّهار" المقابل. عيناكَ. كلماتكَ. يدكَ المرفوعة. كأنّك تقول للنّاظر: "يلا، مشّي معي..." أغمض عينيّ لبرهة. أشيح بوجهي. ما الذي آل بك إلى هنا. كيف انتهيتَ صورةً على جدار. لا أريدك جزءاً آخر من ديكور المشهد.

وتظلّ السّتارة تُرفع صباحاً تلو آخر. والصّورة تتّخذ أنيساً. والدّيكور يتجدّد. والأشجار تستحيل مشجب صورٍ. وأبواق السّيارات سيمفونيّة رثائيّة.. مذعورة.. أو اعتياديّة يوميّة. ماذا يفعلون بمشهدي اليوميّ؟ يلطّخونه بطبشورٍ أحمر. وأنا أمحو وأمحو. يداي يكسوهما الغبار. يلطّخون أكثر فيسبقونني وأخشى ألا أتمكّن من مجاراتهم. شرفتي معرضُ صور. سبّورة أطفالٍ دامية. ترتيلاتٌ غير مفهومة. من يسقطون، أما من رملٍ يحتويهم غير إطارٍ مسمّر عند قدمَي شرفتي؟ أختبىء خلف الحائط. لماذا أرفع السّتارة كلّ يوم؟

زعيق شعاراتٍ بدأ يعلو من الأسفل. "نحن الأكثر"... "أنظروا كيف غطّينا السّاحات"، "حشدنا غير مسبوق"، "لا مكان بعد يتّسع حتّى لشخصٍ واحد"، "يحيا الزّعماء القدادسة"... والصّور، أيضاً، تتفرّج إلى لعبة الأكثريّة. لوهلةٍ، تبتسمُ، تخال أنّ هذا الحشد لا بدّ ينتفض ضدّ من قطفها ليسجنها في الأطر. أليس هذا ما يحدث في الطّبيعة؟ لكن.. شيئاً فشيئاً، تخبو البسمة، تتهالك اليد، يُمحى القسم، ينفطر قلب. فما من نداءٍ يتيم واحد يدعو إلى القبض على حامل السكّين.. على كاسر القلم.. على قتلة لبنان.
تَيكبر البحر بقلبي



- قولَك عن شو عم بخبّرها؟
- مش خبريّة. غنيّة.
- أكيد إنتَ؟
- وفيروز كمان.
- هون؟ بنصّ دين البحر الأسود؟! وبالرّوماني؟
- عم بيقلّها إنّو بلبنان في عنّا البحر أبيض. لمّا بدنا نسافر منخبّيه بشنطنا.. منخاف يفتشونا عالمطار، أحسن ما يضبطونا سارقينه، حاملينه معنا وين ما رحنا؛ ويندلق البحر، ويضيع بشي بلد غريبة، ونصير بلد من دون بحر.
- هلّق هول الرّومانيّي عم يحكوا هيك؟؟
- وعم بقلّها ما تخاف. ما رح يصير شي. كلّ الشّنط بتساع البحر. وكل العيون فيها شوي من ريحة بحر.
- طيب وشو عم بيغنوا؟
- "سهار بعد سهار... تَيحرز المشوار".
- آه... تَيحرز المشوار...
- تصوّري، كيف كان عبد الوهاب بدّو يلحّن هالغنيّة لو ما في عنّا "تـَ"؟ هيدي "علشان يحرز المشوار" كانت حارقتله دينه!
- طيّب عطيني إيدك، تَعا تَنمشي.
- لوين؟
- بدّي نلفّ هيك كلّ الطّرقات، تَنترك شوي من فيروز عالق... ورانا... بالهوا.. عالبحر.. وين ما كان.
شكراً لأنّك في الصّور
وبعد أن أفرغت حقائبَ من وهمٍ



رفعتُ رأسي إلى البعيد



سألتكَ إن كانت السّماء جميلةً هكذا



في بوخارست كما بيروت



لمَ النّاس هنا خائفون؟

في سبيل "القضيّة"

"مرحبا، كيفكم فوق؟ مرتاحين؟ لحظة، لحظة. واحد، واحد. اسم الله على كترتكم، مش عم بسمع شي. سمير، مش وقت تحليلات سياسية إنت وجبران هلّق. بعدكم بهالعادة؟ ما شفتوا السياسة لوين وصّلتكم! قلنالكم مية مرّة كترة السياسة "مضرّة بالصحة"، ما فهمتوا علينا *غمزة غمزة*. اليوم، جايي لعندكم "روم-مايت" جديد. شبّ أوّل طلعته. إيه، ما نحنا كنّا زهقانين، وقلنا أحلى دوا نتسلى باللبنانيّي شوي. ما هنّ هيك هيك ما بيلقوا غمزة: واحد بيخوّن التاني، وغيره بيحرد وبينسحب، وهيداك بيستعرض عضلاته بالشّارع. يعني شي خلنج من اللي بتحبه قلوبكم. آه.. قصدي لمّا كان عندكم قلوب. لأ ولوووو. أيّ محكمة وأيّ تحقيق! أنا بقول بِبَلشوا.. يفكروا.. يفتشوا عن اللي قتلكم لما يصير عددكم، فوق، أكتر من عددنا تحت. ولَوْ، كلو بيهون كرمال القضيّة!"





يلعن أبو "هالقضيّة" اللي ما كانت تشبع من الدّم!

ريثما ينتهي المطرُ




مغلق
بداعي
ورشة
تكسير
داخليّة


نأسف لإزعاجكم
دائرة الأشغال
وشكراً


الوجه الآخر
أحلى ما في سهرتنا؟ أنّنا لم نأتِ فيها على ذكر كلمةٍ واحدة عن التّدوين، أو المدوّنة، أو المدوّنين، ولا عن الفضاء التّدويني أو تعليقات الزّائرين. لم يحلّل كتاباتي كأنّه يعرفني أكثر من نفسي، ولم تسألني من أقصد بكلامي أو أعني بغرامي. لم يؤلّفوا قصّةً وراء القصّة، ولا عاتبوني على كلمةٍ أو غصّة. لم يصوّروا لي صورةً من الخيال، ولا خالوا أنّهم يرونني ضعيفةً، عاريةً من الأصباغ. أخذوني هكذا، كما أنا، بضحكتي وشرودي، بليليَ وورودي، بكلّ تفاهاتي.
أحياناً، أشتاق إلى نفسي معه، من لم تقع عيناه على هذا المكان قبلاً قطّ.
وما زال الولد.. يأكل التّفاحة




يقضمها. يشطرها شطرين
ينتزع لبّها من النّصفين
أتراه يعرف أنّ امرأةً
في النّاحية الأخرى من العالم
تموت مرّتين

قليلاً من الشّمس
من تابع محاولاتي الحثيثة للاستفادة من جواز سفري في رحلاتٍ قصيرة، خلال الآونة الأخيرة، وانتهائها، دائماً وأبداً، بالفشل، إليكم المغامرة الأحدث. اليوم سيّداتي سادتي، نودّع معاً مغامرة رومانيا التي "طلعت من المولد بلا حمّص". فبعد أن أنفقت الأيّام الأخيرة في ترجماتٍ حول تاريخ رومانيا، وأصلها وفصلها، وجغرافيّتها، وسياستها، ومنظّماتها، وحكّامها المتعاقبين، لا بل كدت عمّا قليل أتقن لغتها (استعداداً لرحلة عملٍ مكثّفة كان من المفترض أن تكشف لي عن النّجوم في عزّ الظّهر)؛ وبعد أن اجتحتُ جناح "سبينيس" لأتزوّد بما خفّ حمله وغلت قيمته من الشّوكولاتة والبسكويت (من يدري، لعلّهم لا يملكون شوكولا في رومانيا، على المرء أن يحتاط)؛ وبدأت أؤقلم نفسي مع فكرة الإقامة في مكان تتراوح فيه درجة الحرارة بين الأربع والعشر درجاتٍ مئويّة (هل ذكرتُ أنّني فعلاً لا أطيق الشّتاء؟)؛ إذا بالمشروع يُلغى في الدّقيقة الأخيرة، ولسببٍ لا يخطر في البال لا من قريبٍ ولا من بعيد! فلتسمعوا: "نظراً لرداءة الطّقس والأمطار الغزيرة في الفترة الأخيرة (قد ذكرت أنّني لا أطيق هذا الطّقس، صحّ؟)، فاضت المياه داخل السّفارة الرّومانيّة في لبنان، وأتت على آليّات إصدار تأشيرات الدّخول، فخلّفت فيها أعطالاً لا يُستهان بها، وبالتّالي: لا مجال لمنحكم الفيزا المنشودة، طقّوا موتوا!

تعقيباً على التّدوينة السّابقة، بدأت الأسئلة تطرح نفسها من حولي. فيبدو، يا جماعة، أنّ الطّائرة إلى رومانيا ستسقط، ولهذا فقد أُرسلت إليّ إشارةٌ لعرقلة هذه الرّحلة. البعض يقول إنّني كلّما أخبرت شخصاً إضافيّاً عن مشروعي هذا، قلّ احتمال نجاحه بالنّسبة نفسها التي أفصحت لها عنه؛ وبالتّالي، عندما يبلغ عدد الأشخاص الذي يعلم بأمر مشروعٍ معيّنٍ حدّاً معيّناً، فإنّ إنذاراًً يلعلع في السّماء معلناً أنّ هذا المشروع قد "انفكس". "صوته كصوت إنذارات الحريق. عندما يصدح، يسود الهلع وتجري الملائكة المشرفة على المشروع من ركنٍ إلى آخر، لتحاول إنقاذ شيء، أيّ شيء، لكنّها ما تلبث أن تسلّم جزعاً بهول الفاجعة، ويُسدَل السّتار على الموضوع برمّته. نعم، هكذا يجري الأمر يا إيف، ألا تعرفين؟". يبدو أنّني لم أكن أعرف. بالنّسبة للبعض الآخر، إنّ عدم مغادرتي تعني أنّ شيئاً ما يستدعي بقائي في لبنان هذا الأسبوع بالذّات، أو يمنع ذهابي إلى رومانيا في هذه الفترة نفسها، ولسوف يتكشّف لي الأمر عاجلاً أم آجلاً. هذا عدا عن التّفسيرات الأخرى التي تعزو الأمر إلى "النّصيب" أو "الحسد" أو "القدر" وما إلى ذلك من حكايا الجدّات. المهم، بانتظار إصلاح الأنابيب في السّفارة الرّومانيّة، وإعادة تنظيم المؤتمر والدّخول مجدّداً في دائرة المهل النّهائيّة، ينبغي على من كان يترقّب بينكم أخبار الشّباب الرّومانيّ وعيونه الزّرقاء أن يتريّث قليلاً. فمن يدري كيف ستؤثّر رياح الشّمال بعد على الحياة اليوميّة للبشر؟

حسنٌ انتهت الاستراحة، كفّوا عن العمل، وواصلوا جولتكم في عالم التّدوين! آه، ولا تنسوا: احفظوا لي قليلاً من الشّمس.

التّخاطر: واقع أم خيال؟

"التّخاطر عن بعد.. الإدراك ما فوق الحسّي.. الاستبصار.. تحريك الأشياء بقوّة العقل.. قدرات اللاوعي والإرادة.. الحاسة السادسة.. الإشارات والصّدف.. ووو... إلى أيّ مدى يمكن الاستخفاف بهذه الظّواهر على أنّها خزعبلات لا تستند إلى واقعٍ علميّ؟ كم منّا ينسب كلّ ما يعجز عن تفسيره إلى خانة الصّدف؟ وهل هناك حقّاً ما يسمّى بالصّدفة، أم أنّ كلّ شيءٍ في هذا العالم يحمل في طيّاته معنىً من المعاني لا بدّ من أن ينكشف لاحقاً؛ أو يشكّل جزءاً من سلسلةٍ منطقيّة، لكلّ حلقاتها أدوارٌ متّصلة بعضها ببعض؟ قد تستغرب طائفةٌ من البشر إن علمت أنّ مثل هذه الإشارات تطرق باب سائر النّاس بشكلٍ يوميّ، لكنّ الاختلاف بين شخصٍ وآخر يتحدّد انطلاقاً من مدى تنبّه كلّ منهما إلى هذه الإشارات، وتحليلها، واستخلاص مرسلتها، أي انطلاقاً ممّا يعرف بقوّة حاسّتهما السّادسة. والحاسّة السّادسة، كغيرها من الملكات البشريّة الماديّة والمجرّدة، تصاب بالخمول إن أغفل عنها صاحبها، وتنمو إذا اعتنى بها وطوّرها. وهي إحساسٌ فطريّ لاإراديّ، تتيح للأشخاص الذين يملكونها التّخاطر وقراءة الأفكار واستبصار أحداثٍ لاحقة أو سابقة، وغيرها من القدرات التي تندرج في إطار علم البارابسيكولوجيا. فقد يحدث مثلاً أن يجد المرء نفسه يفكّر فجأةً بشخصٍ معيّن لم يلتق به منذ زمنٍ طويل، فإذا به، بدون سببٍ يستدعي هذا التفكير، يجده أمامه. تُعرف هذه الظّاهرة بالتّخاطر عن بعد، ولعلّ اشتقاق الكلمة يوضّح المعنى: فالخاطرة هي الفكرة، وخطر لي الأمر أي فكّرت فيه، والتّخاطر هو تبادل الفعل أي تبادل الأفكار، وهو هنا انتقال الفكر من شخص إلى آخر بدون وسيلة مادية. وبتعبير آخر، التّخاطر يعني القدرة على رؤية الآخرين أو قراءتهم مباشرةً، وهو بهذا يُعدُّ وسيلةً من وسائل الإدراك خارج الحواس. ولذا يقال في الأمثال الشعبيّة: "القلوب عند بعضها" و"من القلب للقلب رسول"، وهو أمرٌ خاضع لتلاقي الأرواح وصفاء النفوس..."

(همساً)
- هاتِ، نقليني شو كتبتِ، كنت نايمة من أوّل السّاعة، وهيدي البومة ما وقّفت ثرثرة... كل هول؟! يقطع علم النّفس وساعته. قولي معي، رح نسقط بإذن الله. دخلك، شو عاملة الليلة؟ عندي لإلك خبرية بتجنّن. هوووو، وين رحت؟ بعدك معي؟
- قولك عن جد اللي منحبّهم، منعرف شو عم يعملوا هنّ وبعاد؟
- أنا بقلّك شو عم يعملوا... العمايل بعيد عنّك... بس الله يلقّطني فيك يا غسّان يا ابن نعيمة! هاتِ الدّفتر لقلّك، هاتِِ. قال علم نفس قال! بلا تخاطر بلا كلام فاضي. ساقطين بإذن الله! ييي، لك عشو هالابتسامة الحالمة؟؟
- يمكن. بس أنا بقول إنّو "الصدفة" يعني حدا عم بيحكي معنا من بعيد، حدا عم بينادينا من فوق.
- ليه شو قالولك مركبين خط لاسلكي بلا يونيتز مع الأرواح؟ ما تقوليلي رجعت تفتل معك؟ مبارح بتخبريني إنو فيك تنتصري عالمرض والرّشح بقوّة الإرادة، وبكرة ناقص تقوليلي إنّك بتقري الأفكار، وبتعرفي شو لون التياب الداخلية لإستاذ علم الاجتماع. خدي، خدي، خليني كفّي نومتي أحسن!
إليها في عيدها


يا صغيرة...
عندما تنامين
تنسى الملائكةُ أشغالها
وتتكوّر حولك
لتقرّر أيّهما أشهى
خدّك الأيمن أم الأيسر

وتبقى تتشاجر
حتّى يداهمها الصّباح
ويضبطها في غفلتها الإله
فتهرول مدبرةً
ناسيةً فوق خدّيك
زوّادةً من القبلات

ألهذا إذاً تصحين دوماً
وتنثرين بيننا
زوّادة السّماء؟
إعلان
الموقع التّالي يساعد في تسويق اليد العاملة اللّبنانيّة ضمن سوق العمل. فبادروا إلى إدراج سيركم الذّاتية فيه، أو طلبات الوظائف، أخرّيجين جدد كنتم أم أصحاب باع طويل في ميدان اختصاصاتكم. للمزيد من المعلومات حول هذا الموضوع، الرّجاء قراءة الملخّص التّالي.
شو هالطقس العاطل


- قال شو في شي لونه أخضر، وبيضلو طالع نازل، طالع نازل؟

- طب شو في شي لونه أصفر وخطييييير؟

- وشو في شي لونه أسود ومش خطير؟

بقى يا جماعة، اللي بيحزر الأجوبة على هالأسئلة "التّعجيزية"، بيربح شي... ما عندي أدنى فكرة شو هوّ.

يلا وهيدي نكتة اليوم عالبيعة:

قال مرّة النّملة أخدت الفيل لتعرّفه عأهلها. فرفض بيّ النّملة العريس، وبلّش "نو واي! الجوازة دي مش ممكن تتمّ!" وقصص وخبريّات. فما كان من محسوبتكم النّملة إلا إنها حطّت إيدها على بطنها وخدوا ولولة: "طب شو بعمل بالفيل اللي ببطني؟؟!"



آخ طالع عبالي كون كتييييير بايخة هالإيّام...

مجنون إلسا




لأنّك كنتَ "مجنون إلسا" بالنّسبة لنا...
تركع على ركبتك أمام كلّ واحدةٍ بيننا، وتصدح بحركةٍ مسرحيّة:

"هاتِ يديكِ ليزولَ القلق
هاتِ يديك اللتين حلمت بهما كثيراً
وحلمت بهما كثيراً في وحدتي
هاتِ يديك لأنجو"*

ولأنّك كنت بسمتنا. والطّمأنينة إلى كتفٍ تسندنا.
ولأنّك كنت تأكل معنا "البْرنغلز" والبيتزا.
ونسمح لك برؤيتنا، ونحن نحشو أفواهنا بالبرنغلز والبيتزا.
ولأنّ الوقت حان بعد ذلك لنضيّع بعضنا. ونضيّع أنفسنا.
ولأنّنا نفتقدك أحياناً، حينما يتسنّى لنا أن نتذكّر...

لأنّ ولأنّ ولأن... لا أدري لماذا، كلّما قرأت "إلسا"، تذكّرتك وأنت تتأبّط الكتب التي لا تفهم لغتها، وتمرّر لي أوراقاً قديمة للتّرجمة، رغم تذمّري من عملٍ لم يطلبه مدرّس ولا أمر به امتحان. لا أدري لماذا، منذ ذلك الحين، كلّما قرأت "إلسا"، ساورني شعورٌ دافىء إلى التّرجمة. علّي، حينذاك، أداهمك، مطأطأ الرّأس، تقرأ بين السّطور...

لأنّك كنت تحبّ "إلسا"، طرقتَ على بالي اليوم... ولم تؤلمني.




أعيد الكتاب المصفرّ إلى مكانه على الرّف. كنت قد سطّرتَ بالأحمر كلّ السّطور. وكتبتَ كلّ الملاحظات. تركتَه يومها على كرسيّ، مع عبارة مخطوطة على عجل: "وحياتك، بليز بليز، ترجمي لي هذه الصّفحات"

تكرم عينك، ولو متأخّرة بضع سنين.

مقتطف من "بكلّ أسف"، إلسا تريوليه**

طال قرع الصبيّ المكلّف بالتّسليم على باب الغرفة المفروشة. ثمّ ما لبث أن حدّث نفسه أنّ رقم الشّقة هو عينه الذي استعلم عنه في أسفل البناية. وفي النهاية، وضع سلة أزهارٍ عند الباب، ومضى متخلّياً عن البقشيش. بدت السّلة أشبه بتلك التي تزيّن مقصورة إحدى الرّاقصات، وقد احتلّت المكان أمام الباب كأنّها نصبٌ تذكاريّ مهمّ، يتعثّر به المستأجرون حين تشتدّ العتمة في الرّواق، ويضيق بهم المسير فيه. ومن خلف أجنحة الظّلام، هبّ عطرٌ ناعمٌ، ملطّفٌ للنّفوس، فملأ المكان بأريج الزّنبق الفوّاح.

قرابة المساء، انتشرت رائحةٌ أخرى أخذت تخترق عبير الزّنبق لتزرع الدّهشة في قلب مستأجر كان يعبر الرّواق. فمن الغرفة حيث تقبع سلّة الأزهار، تناهى إليه فحيحٌ، فبدا المكان وكأنّه مؤئلٌ لمجموعةٍ من الثّعابين. أمّا الرّائحة، فحدّث ولا حرج. وسرعانَ ما اكتشف أنّ الغاز يملأ المكان! فاندفع ينزل السّلم بأقصى سرعة وهرع إلى المديرة يحذّرها، فما كان من هذه إلا أن صرخت: "يا إلهي! يا للمسكينة! لا شكّ في أنّها نسيت أن تقفل قارورة الغاز! أسرع يا سيّد جيودارني، أسرع، هاكَ المفتاح العمومي، إسبقني، فرجلايَ المنتفختان لا تساعدانني على الرّكض".

كانت المديرة تصعد الدّرجات ببطءٍ وهي تلهث وتتأوّه بشدّة، فيما أخذ المستأجرون يغادرون غرفهم الواحد تلو الآخر استطلاعاً للخبر. فبادرتهم المديرة بالتّفسير وهي تنوح وتتوقّف لتلتقط أنفاسها عند كلّ درجةٍ: "ها هو حادثٌ إضافيّ ينتج عن تسرّب الغاز! يجدر بالمسؤولين أن يمنعوا استعمال الغاز! فقد يقتلنا جميعاً يوماً بسبب أنظمته المعقّدة. آه يا للمسكينة... يا للمسكينة، لعلّها ما زالت حيّة..."

لم يكن في المسكينة نفسٌ واحد ينبض بالحياة. تسلّمت الشّرطة بلاغاً، وأقبل طبيبٌ ليعاين الجثّة، فيما الرّواق حركةٌ مستمرّة واضطرابٌ ينذر بالكوارث. أمّا سلّة الأزهار، فارتمت جثّةً هامدة على الأرض، لا يخطر في بال أحدٍ أن ينتشلها، بينما راحت الأقدام تدوس بطاقةً باسم ألكساندر أوليونار، نُقشت عليها العبارة التّالية:

- إلى أجملهنّ...




* Louis Aragon, Les mains d'Elsa (Le Fou d'Elsa)
** Elsa Triolet (Mille Regrets)

بصّارة.. برّاجة
منذ أن أمسكت البصّارة بكفّك؛ هزّت برأسها؛ وأخبرتك أنّ خطّ العقل قد قضى، نهائيّاً، على القلب، وأنت.. كلّما رأيتَني.. تدسّ يديك عميقاً في جيوبك.

(...)

البصّارة العابرة خطفت منك كفّي. قالت إنّ خطّ الحياة مبتورٌ في نصفه، لا طويل هو ولا قصير، لا متعرّج ولا قويم. قالت إنّ حدثاً جللاً سيغيّر مجرى حياتي. قالت أشياء كثيرة يومها وأومأت يديها بحركاتٍ عنيفة. لكن طمأنتها أنت وقلتَ لن يصيبني مكروهٌ ما دمتَ معي...
فأيّ حجّةٍ ستقدّم لها... إذا صادفتكَ اليوم؟

(...)

أصافحك وأسحب يدي سريعاً. أخشى أن تكون راحتُك ما زالت تسترق السّمع إلى الجدالات المحتدمة، بيني وبين أوردة الدّم في وجنتي.

(...)

كم ضحكتَ عليّ عندما فتحتُ كفّك لألعب دور البصّارة. تصنّعتُ الجدّية يومها، وأخبرتك أنّ أصابعك الرّقيقة الملساء تعكس إحساساً مرهفاً، ويدك الكبيرة تدلّ على صاحب أعمالٍ مبدعة وراقية. لا، لم أقرأ هذا في أحد الكتب التّافهة عن التّنجيم. كلّ ما أردته هو أن أخدع أناملك، فتعزفَ على وجهي تهويدةً أخيرة، وكفّك، كي تحتضن خدّي قبل النّوم.

(...)

صديقتي اللّدودة قرأت في كفّي أنّني لن أعرف الحبّ في حياتي قطّ، وأنّ نهايتي مع الحبّ ستكون وخيمة. معك، أثبت لها كلّ يوم كم هي على خطأ. وتثبت لها أنت كم كانت على صواب.
وعدي لك
وعدتك أثناء الحرب أنّنا، لو خرجنا منها سالمين، فسأتابع الأخبار كلّها، في الأصقاع كلّها. لن أتنفّس الصّعداء وأقول: نحن وهم متباعدون بأشواط؛ غريبون غربة السّماء عن الأرض، الأرض العطشى والسّماء التي عبثاً لا تمطر. لن أنظر إلى مشاهد البؤس بقلبٍ متحجّر. سأقرأ أسماء القتلى واحداً واحداً كأصدقاء قدامى. والصبيّ الخائف، لن أغمض عنه عينيّ وأطفىء جهاز التّلفاز. والجثّة المجهولة، كومة اللّحم التي كانت تعزّ على شخصٍ ما، لن أقيّمها بحجم الخبر الوجيز في النّشرة. سأنتفض لأنّه الإنسان يسقط بغضّ النّظر عن الحدود التي سقط ضمنها، وقضيّته التي سقط من أجلها. سأطأطىء رأسي خجلاً لأنّني، بينما أشكو همومي الصّغيرة، يخبّىء هو، في جيوبه، سرباً مشلولاً من الدّموع العفنة.

وعدتك. كان الزّمن زمن حربٍ. وأخذني دفقٌ من الحماس والخوف والاستياء والغضب والكره والصّدمة والصّيحات والاتّهامات والمثاليّات ووو... كان الزّمن زمن حربٍ، وكنتَ تقول لي سنخرج سالمين... وأنا وعدتُ نفسي، ووعدتك.

اليوم، أجدني أصمّ أذنيّ عن كلّ النّحيب الذي في العالم. أُسكت كلّ نشرات الأخبار. أخرج من قاموسي كلّ الأفعال من عائلة سقط وقُتل وجرح وأصيب واغتيل وانفجر... أضع رأسي على مخدّتي. أغمض عينيّ. أريد أن أنام. أريد أن أحلم. أريد أن أرتاح... ريثما تأتي الضّربة القادمة.

اليوم...
أرفض أن أسمع أنيناً.
أصبح قاسيةً من جديد.
أنضمّ إلى حزب اللامبالين.
وعدتك وكم أنا آسفة.
فأنا اليوم قد خذلتك.
بعد عامين: عسانا لا نصل أبداً




- إلى متى؟
- ماذا؟
- تستمرّين هكذا؟
- هكذا كيف؟
- تتهرّبين من تدويناتنا الطّويلة، وأحاديثنا الطّويلة، وكلّ جملٍ تزيد عن خمسة أسطر.
- قلت لك. أنفاسي أمست قصيرة.
- تستعيضين عن الكلام بأشياءَ أخرى.
- بتّ ألهث بسرعة.
- تغيبين فتراتٍ كثيرة.
- اغتصاب الكلام جريمة أحياناً.
- تقولين إنّ تعليق النّقاط فوق الحروف عبءٌ ثقيلٌ.
- خيرٌ للأعباء أن تفطس في أرحام أمّهاتها.
- تشكّين في من تحبّين.
- أثبت انعدامَ حبّهم حتّى أتحرّر من الشّك.
- ماذا جرى لك؟ لم تكوني على هذا النّحو قبل عامين.
- لا أبقى المرأة نفسها لأكثر من عامين. أضجر.
- تلعنين الإنسان الذي كنته قبلاً. فماذا أنت فاعلة خلال العامين التّاليين؟
- لن ألعن غداً ما لن يبصر النّور اليوم. هذا ما أنا على يقينٍ منه.
- الحروف تقتل صاحبها حين لا تُقال.
- كفّ عن تحويل كلّ شيءٍ إلى ساحة معركة.
- كفّي عن التّظاهر بأنّ كلّ شيء ليس كذلك. الانطلاق محاولةٌ والوصول نضالٌ، وما بين الاثنين لا يمكن أن يكون إلا معركة.
- الوصول مملٌّ.
- بل مثير.

- غرقٌ.
- إبحار.

- سذاجةٌ.
- براءة.

- نهايةٌ.
- استمراريّة.

- عهرٌ.
- تطهّر.

- أفّ. فماذا تريد منّي الآن؟
- أريدك ألا تخشَي هذا المكان.
- المكان حين لا يصبح ملاذنا أنا وأنت يكفّ عن كونه مكاناً. يمسي مجرّد نقطة جغرافيّة.
- فكفّي عن استغلالي إذن كلّما راودك شوقٌ إلى القتل. مرّةً، تحيينني لتهجريني، وأخرى تهاتفينني صباحاً، أنا الذي لم أملك في حياتي هاتفاً قط! تارةً تُلبسينني قميصاً زهريّاً وربطة عنقٍ مزركشة، فتجعلين منّي أضحوكةً، وطوراً تعلّمينني أصول الكياسة كي أفتح لك باب السيّارة! أيّ سيارة! ومنذ متى علّمتني القيادة؟!
- منذ اختلقتك وأنا أفعل بك ما أشاء. تشرب القهوة؟
- ولكنّني لا أحبّ القهوة!!
- بسيطة. سأجعلك تحبّها. مُرّةً كالغصّة العالقة بين أوتار حنجرتك.
- من أكون؟ ألي هويّة أم مزيجٌ من كلّ من مرّ في حياتك أنا؟ أطالب بإجابة. تركّبين لي يداً من هنا، ورجلاً من هناك. تعطينني أنف جارتك وفم صديقك وعنق مديرتك وقَفا لاعب أثقال (هذا يؤاتيني طبعاً نظراً إلى أنّني قد هجرت الرياضة منذ سنين). بعضي تائهٌ غريق وبعضي الآخر ماجنٌ سعيد. بعضي يتّكىء عليك وبعضي غير صالح للنّشر تتكّئين أنت عليه. بعضي يخاف منك وبعضي الآخر تخافين أنت، في الخفاء، منه. في رأسي عقلٌ ذكوريّ وبين رجليّ... تمهّلي... لحظة... دعيني أنظر... آاااه! حمداً لرأفتك بي! ذكوريّ أيضاً.
- فكّرت في أنّكَ قد تريد إنجاب طفلٍ ذات يوم. حين أُطلقك بعيداً.
- وبانتظار ذلك من أنا؟ أيّ مخلوق مشوّه جعلت منّي؟ نتنٌ من رائحة الحروف المنتهية الصّلاحية التي خبّأتها في جيوبي على عجل.
- زعيقك صمّ أذنيّ.

- سوف تعملين فيّ مقصّ رقابتك جزّاً ورتقاً بأيّة حال. ستمسحين كلّ ما أريد أن أخبرهم إيّاه. ستحوّرين الأحداث على طريقتك.
- قهوتك بدأت تبرد.
- ماذا ستخلّفين من كلماتي؟ إذا قلت لك إنّني أكرهك، ماذا تخلّفين من كلماتي؟
- لا تستطيع أن تكرهني. فأنا وأنت واحد.
- وإذا قلت لك إنّني أحبّك، ماذا يبقى من كلماتي؟
- (تهزّ رأسها) سنتان... سنتان يا قلمي، وبعد لم أفهمِ!


*(بمناسبة مرور سنتين على عمر حوّاء، المخلوقة الأخرى في داخلي. في صحّة ما صيّرتني وصيّرتها. في صحة كلّ الثّرثرة التي حشت بها هذه الصّفحات. وشكراً لمن يتحمّلها كما أفعل أحياناً...)

لقاء.. بعد حين




- لماذا لم نحدث قبل عشر سنواتٍ؟
- على ما أذكر، كنتُ أعاني طلاقاً عسيراً، بينما أنتَ، سعيداً، على أبواب زواج.
- لا أذكر الأمر على هذا النّحو.
- لا؟
- كنت أسأل نفسي أيّ حظٍ هذا الذي يجعلك حرّةً أخيراً، بينما أنا... مكبّلٌ... على أبواب زواج.

...
الفتاة التّائهة
إيهاث بشّرتني بولادة كتابها الأوّل بعنوان "لا تطلق النّار- ... عندي لك قصّة جديدة"، المستوحى من حياتها الخاصّة.

ألف ألف مبروك، وعقبال العايزين!! *غمزة غمزة*

وهلّق يلا، تفضّلوا يا جماعة على أقرب مكتبة، أو احجزوا نسختكم من هنا.
توق




حتّى السّتارة تعرفُ أين جلستِ ليلة أمس...

وجدّي عندو حمار...

أريج غُربة



ولمّا سألني عن حبّي الأوّل، أدركتُ أنّني لم أعد أذكر تضاريس وجهك... وأنّ كتفك لو اصطدمت صدفةً بكتفي، لالتفتُّ إليك وسط جموع المتسوّقين، ومنحتك ابتسامةً معتذرة... لأسرعتُ الخطى كي أخطف ذاك الفستان الأحمر في الواجهة، وأنا لا أدري أنّني، ذات يومٍ، كنت قد وشوشت لوردةٍ، تشبه هذي، عن حروف اسمك.

ولمّا سألني عن حبّي الأوّل، ابتسمتُ وقلت عيونك الزّرق لون طيشي.

ولمّا سألني، نبشتُ اسمك من زمنٍ آخر وأغلقت على الوردة المتفتّحة أناملي.

هذا السرّ



تصمت فجأةً لأنّها.. لم تخبر أحداً.. كم هي، حقيقةً، سيّئةٌ جدّاً.. عندما تنسج حبال صوتها في عرق الكلام.

ارتداد



وما ذنبي أنا يا بحرُ
إذا أمواجُك اقتادتني بعيداً عنهمُ

وما ذنبي أنا إذا قالوا
غرقتُ أو جنحتُ أو ضيّعتني الأنجمُ

وحكوا عن بحّارةٍ صادفوني
خشبةً عائمةً.. روحاً يحبسها قمقمُ


وقالوا أنا الطّيرُ خارجَ السّرب
أنا الوحيدُ أنا المرتدُّ أنا المعدمُ

وما ذنبي يا بحر قل لي
إن كانوا اتّحادي بعواصفك لم يفهموا
أعراض جانبيّة للحروف

- 1 –

لماذا لا تحذّرني
قبل أن تهديَني الأغاني
أنّ الإصغاءَ إليها عشرين مرّةً متتالية
شجنٌ خبيث
ورمٌ... مضرٌّ بالصّحة
.
.
.
أأنتَ في صفّي
أم معهم ضدّي؟


- 2 -

تلثم خدّي بالقبلات
ثمّ تتساقط على كتفي
تعود كلّما أبعدتك عنّي
تدغدغني
حتّى في اجتماعات العمل!
يا مجنون، كم مرّة قلت لك...
عندما يهزّك الشّوق إليّ
لا تتقمّص في.. شَعرة!
.
.
.
أهكذا أنت إذاً؟
كلّما مرّرتُ يدي في شعري
تبقى
آثارٌ منك في كلّ مكان


- 3 -

كلّ ليلةٍ تجلس أمام شاشة الكومبيوتر.
تحاول أن تلفظَ ما في حنجرتها من علامات وقفٍ واستفهام.
كلّ ليلةٍ تربح لعبة السوليتير عشر مرّات.
وتدردش مع الأصدقاء ساعاتٍ وساعات.
كلّ ليلةٍ قبل أن تطفىء الجهاز،
يضحك منها بسخرية
المؤشّرُ الومّاض فوق الصّفحة البيضاء
.
.
.
لماذا فقط في سريرها
قبل أن يفترسهاالنّوم بهنيهات
يتدفّق سيلُ الكلمات؟


- 4 –

النّاس الذين.. في وسط الشّوارع
يخفون وجوهَهم بأكفّهم
أو يصيحون فجأة
ليسوا بمجانين
إنّهم فقط
ضحايا ذكرى قديمة
فاجأتهم على حين غفلة
.
.
.
الذّكرياتُ القديمة أكثر من تطعن
العابرين


- 5 -

المدرّس أعطاها صفراً
لأنّها ما تعلّمت قط
أن تضع نقاط النّهاية وراء الجمل
لم تخبره أنّك تتسلّل إلى دفاترها ليلاً
لتغتال الحروف
وتجعل النّهايات من غير نقط
.
.
.
من
غير
نقط
وما الجدوى

أخبرَ الكلَّ أنّه يحبّها.
الأهلَ والجيران.
والنّوافذ المشرّعة على حيّه ساعة الظّهيرة.
وثقوب المفاتيح في الأبواب.
والكهل المشرّد مع لحافٍ وقنّينة.
والبعوضة التي تطنّ فوق أذنه طنيناً.
وصبيّ توصيل البيتزا عند الباب.
وصفوف النّمل وراء حبّة ملبّس.
والرّقم الذي أخطأ في طلبه تلك العشيّة.
وانعكاسه في المرآة قبل الحلاقة.
وهرّته الكسولة.
وبرك الماء حيث قفز، ومطر الصّباح.
والطّفلة التي ضحكت له حينذاك.
وأمّها التي لم تضحك.
وسائق التّاكسي الذي انهال عليه بالسّباب.
ورائحة أمّه في براويز الصّور.
ومقاعد الحافلات وجذوع الشّجر.
والأفران التي تُفتح فجراً والآذان.
والقلوب المرسومة على فواتير الهاتف والكهرباء.
والعرّافة التي منحته نظرة شفقة.
وحفنة الرّمل الهاربة بين أصابعه.
وأوراق الرّوزنامة المتساقطة.
والموعد القادم لا محالة.
والنّظرة الواحدة من زاوية عينيها.
والموعد القادم...
القادم لا محالة.

أخبر الكلّ أنّه يحبّها.
لكن حين رحلت أخيراً،
فطن أنْ قد فاته
إخبارها
هي.
لا تنظر في عينيّ
لا أتكوّر على نفسي حزناً
ولا إخفاءً لوجهٍ شطّبت فيه النّدوبُ

لا أدّثر داخل فقّاعةٍ برداً
ولا دندنةً للحنٍ ليس له وجودُ

أنا فقط...
أنهي طلاءَ أظافري
باللّون الأحمر
كلّنا ليلى: المرأة المهجورة

[تمهيد] شك
راً للمدوِّنات المصريّات على دعوتي للمشاركة في هذه الحملة التي يمكنكم الاطّلاع على تفاصيلها هنا. الحملة ليست انتقاصاً من آدم، ولا راياتٍ تُرفع لمجرّد الرّفع. الحملة تعبيرٌ عن كلّ ليلى، ننساها أحياناً لأنّنا منشغلون بتفاصيلنا الأخرى؛ نحمّلها، بنظراتنا، أحكاماً بحجم ذنوبنا المكتومة كلّها، وتغتصبها ألسنتنا في الخفاء كلّ يومٍ عشرين مرّة. من جهتي، ليلى في قصّتي وردةٌ صغيرة تبقى في القلب رغم كلّ شيء... [نهاية التّمهيد].



ليست قطرةً من الحبر يابسةً
لوّثت صهيل غروركم على ورقة
ولا عتبةً فوقها تلمّعون
ما علق في نعالكم من شفقة
ليست قرنفلةً منسيّةً بين الدّفاتر
تسحقها الأظافر عند انتهاء الصّفَقَة
لا ولا حلماً خائباً أو وقتاً ضاع سدىً
تتنفّسون جسدها ثمّ ترمونها بالصّدقة
ليست قطعةً مستعملة ولا غياراً عتيقاً
ولا شغفاً منتهي الصّلاحية ولا حيواناً نفقَ

ليست إلا دعوةً دفينةً إلى الحبّ
المرأةُ الأرملة، المرأةُ المطلّقة
النّواب يعتصمون في البرلمان

- لك يا نبيه!
- همممم...
- نمت ولا لسّه؟
- شو في يا إخوان؟
- بلاقي معك شفرة حلاقة؟ نسيت جيب العدّة معي.
- روح اسأل مروان!
- يا خيّي، مروان عم بيحرّك الطّبخة، وأكرم عم ينشر الغسيل. وبعدين، بهية وستريدا عم يِتْودْودوا قبل النوم. إيه صحيح، صعبة ينفعوني بهالمسألة أصلاً.
- طب خلص، اتركونا ننام يا إخوان.
- شو يعني؟ مش رح نعمل حفلة بيجامات؟
- حفلة بيجامات؟ لك إذا حدا منكم بيشخّر الليلة، إيه والله والله رح أعمله حفلة مرتّبة بالجلسة، وبكرة بيكون آخر واحد بيفوت عالحمام! شو فهمنا؟
- ولُوووو! طيّب! مش رح نلعبك معنا دق ورق شدّة لكن!


* لعلّي شردت قليلاً مع تخيّلاتي، لكن الواقع الأكيد أنّ لبنان ما زال خاضعاً لحصارٍ بحريّ وجويّ، وأنّ شيئاً لم ينته بعد. ففكّوا الحصار وانقلعوا عن البلد بقى *
دروب



جفَّ الملحُ على القناطرِ الحجريّة
قِرَباً من حزنٍ
تقطرُ عندما لا يزورها أحد
ثلاث إجابات
بما إنّو مش طالع منّي الحكي هل كم يوم، فما تتوقّعوا إنو يكون هيدا بوست غير شكل (ممكن يكون هلوسات واحدة نعسانة مش أكتر).
فيا جماعة، كنت عم بحكي مع أحد الأصدقاء المدونين من يومين، وكان عم بيقلي إنو يا إيف بدّك تعملي كتاب.
بعرف إنو في كذا شخص نصحني بهل شي من قبل، بس أنا صراحة ما أخدت الأمر جدياً، على طريقة إنو أحلام الطّفولة ما بتتحقق بهالسهولة، وإنو مين مفكرة حالي أنا حتّى أعمل كتاب.
بس آنيواي... ما بعرف أيّ لمبة ضوّت فوق راسي هالمرّة، بس قرّرت إنو ليش لأ، هات تأعمل شي مفيد بحياتي؛ وإنو أكتر شي منتسلى وما بخسر شي. وكيف ما تجي تجي.
فـ آنيواي، عطوني رأيكم بليز. شو أكتر تلات بوستات (مثلاً) عجبوكم أو علقوا بفكركم بهل سنتين تقريباً؟
البوستات اللي بتربح معنا أكيد حتؤخذ بعين الاعتبار.
ولكم منّي جزيل الشّكر. ميرسي ميرسي. ويلا بون نوي. غودنايت. فتّكم بعافية.
هرّ ضائع



هرّ الجيران الضّائع كان يتسلّل إلى شرفتنا أيّام الحرب. فجأةً يطلّ عليّ؛ ينظر إليّ بعينيه المضيئتين، كلّ ليلة قبل أن أنام، ثمّ يعود قبل الصّباح.

هرّ الجيران الضّائع رمقني من خلف الزّجاج ذات مرّة، قبل أن تبتلعه حزمة الضّوء، ويختفي إلى غير رجعة.



ملاحظة: لقد رصدوا مكافأةً لمن يجده. لكن من غادر إلى الضّوء، كيف عساه يعود؟
عمول منيح...

واترك بحري بحاله...




نامي بقى، نامي
أستيقظ في اللّيل أحياناً، وأنا لا أدري أنحن في الهزيع الأوّل منه أم الأخير. أتحسّس الخليويّ إلى جانب سريري، لأعرف كم تبقّى من ساعات النّوم. الكهرباء مقطوعة والمكان غارقٌ في ظلامٍ دامس. إنّها ليلةٌ أخرى يترادف فيها انقطاع الكهرباء مع انحباس الهواء، والحرارة التي لا تطاق. أحاول أن أسحب نفساً عميقاً. لكن لا... لا أتمكّن من تحمّل كلّ هذه الملاءات الملتصقة بجسدي. أرمي الغطاء على الأرض. أنهض بحركةٍ واحدة. أنسى دائماً أنّ عليّ النّهوض ببطء، لأتفادى لحظة الدّوار التي تهدّد توازني. أتحسّس طريقي في الظّلام. أهتدي إلى الماء. أحتاج إلى غسل كلّ آثار الكوابيس عن جبيني، وصدغيّ، ومحيط رقبتي.

يقولون إنّ الحرب انتهت. هكذا إذن. انتهت كما بدأت، على حين غفلة، بخلاف كافة التّوقعات؛ بالضبط حين بدأ الجميع يألف رائحة المباني المحترقة مع الهواء. لا يزال ما يشبه أزيز الطّائرات في أذنيّ. لا أزال أتفقّد الأخبار كلّما سمعت ما يشبه الدّوي. سرابات الأصوات كلّها متراكمة في رأسي. سراباتٌ لا أكثر. تقتات على التّرقب والانتظار... أحياناً، تسمع الكون كلّه في شهقات انتظار، ألستَ أنت من أخبرني ذلك؟ أنّ بإمكاني الإصغاء إلى ما يحلو لي في مساحةٍ معيّنة من الصّمت؟ هدير البحر في قوقعة، أو نغمة عود من طابق مهجور، حتّى صوتك، بعد مدّةٍ طويلة على رحيلك، قلتَ إنّني أستطيع أن أسمعه في الصّمت. فلمَ أختار أن أرسم هذه الأصوات الأخرى؟ يقولون أشياءَ كثيرة. يتنازعون على إكليل الانتصار.. سائر حكومات الأرض، في سائر بلاد العالم، الكلّ يريد أن يقتطع منه حصّة. "أطنان المساعدات" تكفي ليطمئنّ بال أصحاب القرار. أولمرت يتوعّد بإعادة الكرّة. ولا أحد يدّعي الخسارة. فالخسارة طرطورٌ قبيح لا يريد اعتماره أحد. لمَ أعجز عن تصديقهم كلّهم؟ أجلس في زاويتي وألبس الطّرطور. تجّار الحرب يتاجرون بي. أشعر أنّني الخاسرة الوحيدة.

الماء ما زال يتدفّق من الصّنبور. أسمعه في الخارج أيضاً، يتدفّق من السّماء. ونحن في منتصف آب. والحرارة لا تُطاق. أيّ انقلابٍ للمقاييس هو هذا؟ أيّ سراباتٍ من الغبار ينوي أن يغسل المطرُ؟

أوقف تدفّق الماء. بحلول ذلك الوقت، اعتادت عيناي ظلام الأشياء. أستلقي في السّرير من جديد. أحدّق في السّقف. لا أعرف ماذا أرى بالتّحديد. أودّ أن يشكّل ما أراه رسماً مطّرداً... كلمةً، خريطة، خيوطاً... أيّ شكلٍ... أيّ صوتٍ. أريد أن أهندس الفراغ. أن أصنع مساحتي الخاصّة من الصّوت، وألوّنها، وأخزّنها لحين تدعو الحاجة. شيئاً فشيئاً، أسمع همس بيتٍ على سطحه عريشة. نعم، هناك في السّقف. لا، كان بيتاً قرميديّاً. أخبرتك قبلاً أنّني أحبّ البيوت القرميديّة، صحّ؟ أتابع الإصغاء. أسمع شبابيكه وهي تُشرّع؛ أزهاره وهي تتفتّح؛ ومطره يتساقط بهدوء. وإذا أصغيتُ مليّاً، عند تلك اللّحظة الوحيدة قبل الغرق في السّبات مباشرةً، لسمعتُ قهقهاتٍ تصدر من تحت الملاءات، لأولادٍ لا يختبئون؛ يريدون اللّعب لا أكثر.

حسنٌ عليك أن تجبرني على النّوم الآن. تعرف كم أتفوّه بالحماقات حين تتركني أتكلّم على سجيّتي ثمّ تضحك عليّ سرّاً.

(لا يهمّني إن كنتُ قد اشتكيتُ من الحرّ للتوّ... لا تسرق لحافي!)
بيروت امرأة ورجل

لا أعرف بالضّبط من كتب هذه التّدوينة، ولكن أغلب الظنّ أنّها زائرة فرنسيّة للبنان.الصّدفة قادتني إليه، وفرادته دفعتني إلى ترجمته. النّص يقوم على مقابلة مزدوجة لبيروت، ويمتدح التّنوع كمنبع غنى وإثراء. والموقع نفسه يحتوي على عشرات وعشرات من رسائل الحبّ لبيروت ولبنان، وأسبابٍ لامتناهية تجعل هذا الحبّ قدراً محتوماً. وأنتم، إذا كان من سببٍ واحد يجعلكم تحبّونها، فما قد يكون؟


أحبّ بيروت لأنّني أرهف لها سمعي منذ عامين.

بيروت هي صديقي.

بيروت في الثّلاثين من العمر.

بيروت رجلٌ مسلم.

بيروت تجيد العربيّة والفرنسيّة والانكليزيّة والاسبانيّة.

بيروت تسكن أروقة مونتريال وباريس، وكلّ مدن العالم. وبيروت...
تسكن بيروت...

بيروت هي الميكانيكي الذي يكبّ على سيّارتي في زاوية الشّارع، لكن أيضاً مهندس بيتي، والطّالب الجامعيّ جاري، وبشكلٍ خاصّ بيروت صديقي... لحن صبري، ومنبع قوّتي...

بيروت الرّجل المتحفّظ، الكتوم، العاقل حيناً؛ المقدام المجنون النابض بالحياة حيناً آخر...

بيروت رجلٌ يهوى النّساء، والتّرف، والموسيقى، والمعارض، والعطور، والضّجة، وشدو الثّقافات جميعها.

وبيروت تجرّني من يدي لأشهد على كلّ ذلك. لأنّ بيروت لا تسأم أبداً.

بيروت تراقصني على أنغام الفالس في الثّانية صباحاً، هكذا، بكلّ بساطة، لأنّها بيروت...

بيروت تطهو لي بيروت، حين أنسى أن أتناول غذائي أحياناً.

بيروت تسمع الموجة الفرنسيّة، لأنّ فرنسا طفلةٌ أفسدها الدّلال، تذرف الدّموع للا شيء.

أمّا بيروت، فتبكي موتاها.

بيروت تصغي إلى قصص حبّي التّافهة، ومخاوفي التّافهة، ويوميّاتي التي تمضي من غير لونٍ... لأنّ بيروت صديقي...

بيروت صبيٌّ بعينين سوداوين، أبدع الله في تصويره.

بيروت أسرةٌ على مصطبةٍ في بيروت، تغنّي السّلام.

بيروت تشدو وتعزف على آلةٍ موسيقيّة واحدة: هي الحياة.



أحبّ بيروت لأنّني أقرأها منذ ستّة أشهر.

بيروت هي صديقتي.

بيروت في الحادية والثّلاثين من العمر.

بيروت مسيحيّة.

بيروت امرأة.

بيروت فرنسيّة لبنانيّة، تجيد العربيّة والانكليزيّة ولغات الدّنيا كلّها.

بيروت تسكن في باريس ومونتريال، وبيروت تسكن بيروت...

بيروت عالمة أحياء، وصحافيّة، ومحاميّة، هاويةٌ للسّينما، لكن الأكثر من ذلك بيروت سكينتي وقوّتي.

بيروت ثرثارة وباسمة، منفتحة ومثقّفة، فضوليّة، لطيفة وساحرة. بيروت ساحرة...

بيروت لا تسدل خمارها على بيروت... ولبيروت نزعة نحو التيّارات النّسويّة.

بيروت امرأةٌ تحبّ الرّجال.. ترقص على أنغام الموسيقى المعاصرة، وتؤلّف ألحاناً من أجل بيروت.

بيروت تقدّم لي المثلّجات في مدينة الباستيل، حين أنسى أن أتناول غذائي أحياناً.

بيروت تصغي إلى تفاهاتي بينما تفكّر في أبنائها... لأنّ بيروت صديقتي.

بيروت امرأةٌ فتّانة الملامح، بضفيرتين سوداوين.

بيروت أسرةٌ تتناوب على سمّاعة الهاتف؛ صيحاتها تعلو من أجل السّلام.

بيروت تعزف نغمةً واحدة وترقص رقصتها الواحدة: الحياة.

لا أعرف لبنان ولا أعرف بيروت، لكنّني أحبّ البسمة على شفاهها، وبريق الدّمع في عينيها.

أحبّ تنوّع هذا الشّعب. هوى بيروت قد ملك عناني؛ قوّتها استوقدت جوارحي.
تدوين تدوين
بعيداً عن الحرب واكسسواراتها، كريم بعتلي شويّة أسئلة مهضومة عن تقييم تجربتي في التّدوين وهيك. كتير منيح، لأنّو جايي عبالي شويّة رواق اليوم.


هل أنت راض عن مدونتك شكلاً وموضوعاً؟
شكلاً: كتّر خير إمكانيّاتي المتواضعة. أكتر من هيك ما بعرف حسّن بالشكل. فمبدئيّاً، راضية والذي منه.
مضموناً: يمكن لازمني بوستات أقل كآبة شوي. إذا بدّي عدّ الأشخاص اللي تفاجأوا لمّا قابلوني شخصياً (لأنو كان في صورة معيّنة بتفكيرهم)، مش رح إخلص. إيف جزء منّي بس مش كل اللي فيّ.

هل تعلم أسرتك الصغيرة بأمر مدونتك؟
إخواتي بيعرفوا. بيقروا لمّا يكونوا زهقانين، وما في شي أحسن يعملوه، على حد قولهم :)

هل تجد حرجاً في أن تُخبر صديقاً عن مدونتك؟ هل تعتبرها أمرا خاصا بك؟
أوّل شي، يمكن كنت أكتر حفاظاً على الخصوصية ومدري شو. بس هلّق، صار الكل لاحقهم طرطوشة خبر، وما عندي أيّ حرج. حتّى ما عندي مشكلة خبّر ناس كنت حاكية عنهم بالعاطل على هالمدونة. يمكن لأنو بعرف ما حدا منهم رح يقرا أصلاً. نعم، بعتبرها أمر خاص، بس ما عندي مانع إنها تكون واحدة من وسايل التّعريف فيّ بالنّسبة للي ما بيعرفوني منيح. أصدقائي المقرّبين بيقروا على قد إمكانياتهم، أو بيطلبوا منّي إقرالهم ببعض الجلسات.

هل تسببت المدونات بتغيير إيجابى لأفكارك؟
أكيد. بصير عندي اطّلاع على نوعيّات مختلفة من التّفكير، من النّقيض إلى النّقيض. وتعلمت ما طبّق أحكامي الجاهزة على بعض المدوّنين.

هل تكتفى بفتح صفحات من يعقبون بردود فى مدونتك أم تسعى لاكتشاف المزيد؟
أسعى لاكتشاف المزيد. يعني على قد ما بقدر لحّق على المدونات اللي عم تكتر يوم بعد يوم. بلا حسيدة يعني. بس في محطّات ثابتة لازم ازورها يوميّاً، ومحطّات أسبوعيّاً، ومحطّات ستيل "زوروني كلّ شهر مرّة". هيك شي.

ماذا يعنى لك عداد الزوار.. هل تهتم بوضعه فى مدونتك؟
بالأوّل كان شي جديد، وأكيد كنت مهووسة بهالاختراع اللي بقلك أيّ ساعة بيجي الزائر وأي ساعة بيروح، وكيف، وعن أيّ طريق، وشو عمل عندك، وقدّيه قعد، وكيف بيشرب القهوة... بس بعدين خلص. مع إنو بالشّهر اللي مضى، وبظلّ فوران الزيارات عالمدونات اللبنانيّة، كان عندي فضول أعرف مين المهتمّين بالأزمة والذي منه.

هل حاولت تخيل شكل اصدقائك المدونين؟
بطّلت. خاصّة بعد ما أثبتت محاولاتي الماضية بهالمجال عن فشلها الذريع. بس تقريباً أكتريتهم هلّق صرت أعرف شكلهم، ونسيت المرحلة اللي كانوا فيها كلمات بلا وجوه.

اعترف! هل ترى فائدة حقيقية للتدوين؟
طيّب طيّب، رح اعترف. أوّل شي، كانت فايدة شخصية، وطريقة لفش الخلق. وبالمدّة الأخيرة، ما في الواحد ينكر المجهود الكبير اللي عملته المدونات اللبنانية وطريقة ملاحقتها للأخبار وردة فعلها على اللي صار. مش رح قول إنّو التّدوين هو المبشّر بالفتوحات وكاسر الظّلمات، بس أكيد كان إلو دور مهم، وهيدي الحرب كانت أكتر حدث نشط فيه التّدوين.

هل تشعر أن مجتمع المدونين مجتمع منفصل عن العالم المحيط بك أم متفاعل مع احداثه؟
مع إنو المجتمعين ببينوا كتير متشابهين، ومع إنو أحداث عالم الواقع هي دائماً مراية معكوسة بعالم التدوين، بس بالنهاية هنّ شغلتين منفصلين. من جهة، في حياة "إيف" و"المجتمع التخيّلي"، ومن جهة تانية، في اللي هي مش إيف وحياتها اليوميّة. ازدواجية بركي.

هل يزعجك وجود نقد بمدونتك ؟ أم تشعر انه ظاهرة صحية؟
صراحة اللي بيزعجني هن الناس اللي بيسكتوا بيسكتوا، وبالآخر بيفطروا على نقد. يعني ما بيطلع صوتهم إلا إذا مسكوا عليّ شي غلطة، وبدهم ينتقدوني عليها. بس بشكلٍ عام، ما عندي مشكلة، مع إنّو أكيد ما حدا هالقد بينبسط لمّا يكون كاتب شغلة حاببها، وفجأة بيتلقى رسالة الكترونية: "مستواك عم يتدهور! خيّبتلي أملي!" (يلي بتعرف حالك، مش رح إعتقك أبداً :) )

هل تخاف من بعض المدونات السياسية وتتحاشاها؟ هل صدمك اعتقال بعض المدونين؟
خوف لأ. تحاشي بالأحرى لأنّها مش من ضمن اهتماماتي. مع إنّو دايماً بطلّ طلّة، وبقرا العناوين الرئيسية، للعلم والخبر مش أكتر. بفترة الحرب على لبنان، تغيّر هالشي، وصار بيهمني تابع ردود الفعل المختلفة. بالنّسبة للاعتقال، استغربت، بس بالنهاية كل شي متوقّع من العقول الرّجعية اللي بتخاف من صوت الشّباب.

هل فكرت فى مصير مدونتك حال وفاتك؟
يييي، كتير. حتّى كتبت شي عن هالموضوع من زمان، بس بعده مسودّة، ما صار في فرصة إنو انشره عالمدونة. يعني، كم شخص ح يسألوا "وينك غايبة"، ح يجي صديق يقلهم "خلص، ما بقى في داعي للانتظار"، وحدا من المدونين عالمنتدى اللبناني ح ينشر بوست "اليوم فقدنا صديقة عزيزة" (إنو هيك بتصوّر، أوعوا ما يطلعلي بوست يعني!). ومدونتي حتبقى هيك لحالها. والزيارات حتخف. ومن وقت للتاني، حدا حيقرا بوست قديم للذكرى. وبس.

آخر سؤال : ماذا تحب أن تسمع؟ ما الاغنية التى تحب وضع اللينك الخاص بها فى مدونتك؟
هو أنا ما بحب حط لينك أغنية بالسايد بار. صارت معي مواقف بايخة لما الصوت بيطلع فجأة، وبجرّصني بمواقف غير مستحبّة. بس هالايام، عم حبّ اسمع مايكل بوبليه بهيدي الغنيّة.

اكتب اسماء خمسة مدونين ليقوموا بهذا الاستقصاء بعدك .
خمسة بس؟ همممم... ضحى ، وتارا، ونرمينا، ونور، وريحان. وأكيد إذا حدا بدّو، أهلا وسهلا.
ما تسألني

destruction 036



ولمّا تسألني، رح خبرك عن مرجوحة، كان ممكن تكون إلنا... واتنين، كان ممكن يكونوا نحنا... قاعدين فيها بلا ما نحكي، إنت لبعيد عم تتطلّع وأنا مش عم بتطلّع بشي...

لمّا تسألني، رح خبرك إنّو بطّل فيك تجي لعنّا... عند اللي كان ممكن يكون "عنّا"... مش لأنّو بيّي بعيّط عليّ، ولا لأنّو الجيران بيحكوا علينا، ولا عشان المرجوحة اللي بتْزَيْزِئ باللّيل...


لأنّو بيّي اتهجّر...
والجيران سافروا...
والمرجوحة، ماتت برصاصة رحمة.

ما فيك...
لأنّو بطّل في "عنّا".



* الصّورة من منطقة الضّاحية بعد الدّمار. أنقر الصّورة للمزيد من المشاهد الملتقطة بالأمس.
عندما تبدأ الغارة



عندما دوّى انفجارٌ آخر هذا المساء، تطلّب الأمر بضع هنيهاتٍ كي أتذكّر أنّني أحمل كاميرتي في حقيبة يدي. قد تظنّ أنّ دويّاً كهذا سيدفع بالمارّة إلى الجري بحركةٍ هستيريّة، أو على الأقل إلى إقفال المحال والتّواري. لكن باستثناء الرّؤوس التي ارتفعت لاستطلاع الدّخان الأسود، من على بعد عشر دقائق عن هذا المكان، بقيت الحركة على طبيعتها: أهالي الحيّ في جلسةٍ، مع نارجيلة في معظم الأوقات، على أرصفة محالهم، أو شرفاتهم المطلة على الشّارع، أو عند أبواب المدارس الرّسمية التي فتحت أبوابها صيفاً على غير عادة. والأعجب أنّ الفتية الثّقيلي الدّم ما زالوا يجدون الوقت لقيادة درّاجاتٍ ناريّة، لم يعد أحدٌ يبالي بمصادرتها منهم في ظلّ ظروفٍ كهذه، فاستعراض مواهبهم الخائبة أمام عابراتٍ قلّما يعرنهم اهتماماً. وما زال أبو جميل الخيّاط يفتح بابه أمام زبونةٍ تناشده إصلاح سروالٍ تمزّق من هنا، أو قميصٍ بحاجة إلى تضييق من هناك؛ وأبو جعفر يستعرض رفوفه التي بدأت تفرغ أمام المتبضّعين، ويخبّىء دائماً بعضاً من اللّوز الذي أحبّه "لمن يعرف طعمة فمه" كما يقول. كما بقي ذو الفقار، أو زوزو كما يحلو للبعض أن يناديه، يحاول أن يقنعك أنّ خضاره طازجةٌ طبعاً، وأنّه ينوي أن يعود إلى الضّاحية في الغد، بعيد وقف إطلاق النّار. تلتقط أذنك دوماً شتائم من هنا وهناك، تصبّ في أغلبها، إن لم نقل جميعها، ضدّ "الإسرائيليي واللي خلّفوهم"، كما تحذّر من ليلةٍ عسيرة سيمضيها اللّبنانيّون عامةً، وأبناء الضّاحية بشكلٍ خاصّ، هذا المساء. فـ"الإسرائيليّي، الله يقصف عمرهم، بدّهم يفشّوا خلقهم قدّ ما فيهم، ويستعرضوا شويّة العضلات اللي بقيوا" أو "شو بتتوقّع من جنس غادر، بيبعتوا النّازحين من مرجعيون عبيروت، وبيقصفوهم بنصّ الطّريق؟" أو "سماح؟ انشاالله بموت إذا بيشوفوا منّي سماح، الله يحرق لهم قلبهم متل ما حرقوا قلبي على هالصبي..."، هذا إلى ما تبقّى من شتائم العين والشّين، تحمّلها قلوب أمّهاتٍ ثكلى لأولمرت وبوش وتوابعهما... من الأعلى، السّماء ملبّدةٌ بسحبٍ من تصنيعٍ إسرائيليّ؛ وهي، عندما تمتزج بلون المغيب، توحي للنّاظر أنّها اصطبغت بلون التّراب الملطّخ بالدّم.

وسط الشّارع الذي استفاد الصّبية من خلوّه، راح هؤلاء يمارسون هوايتهم المفضّلة، فيتراشقون بالكرة، ويتجادلون على كيفيّة تشكيل فريقَي الحيّ في بطولة كرة قدمٍ "على قدّ الحال". هناك، يرنّ حديثٌ جانبيّ في أذني:

- قولك الإسرائيليّي بيلعبوا فوتبول؟
- شو أهبل إنت؟ ما شفت الصّور؟ الولاد عندهم بيبعتوا قذايف، وبيقتلوا الولاد اللبنانيّي. هول ناس ما بيعرفوا يلعبوا فوتبول. لك هول ناس ما بيعرفوا يحبّوا!

عند ذلك الحين، لا يسعك إلا أن تلتفت إلى سحابة الدّخان التي ما زالت ترتفع في السّماء من ورائك، وتتمتم:

"برافو، عن جدّ برافو!"

حيطان بيروت


شويّة خربشات، ونخب المزاج اللي مش طايق!



ضحّكتني يا شو اسمك



شيييييي يا حــــ... ياة!


10452: مألوف؟ لأ، مش رقم بطاقة ائتمان... ولا تلفون


12 تمّوز ودي.جاي. وسهر للصّبح. وشي فاشل...


حرية، سيادة واستقلال... فوق أيّ مزبلة؟





بس معك حقّ... يا شو اسمك

حالات نفسيّة

آخر من غادر المكان، أنا.
أطفأت الأنوار. وأدرت المفتاح في القفل مرّتين.
انتظرت طويلاً طويلاً مرور السيّارات لأعبر الشّارع.
فلم تمرّ ولا سيّارة.
ولم أتوقّف عن الانتظار.

آخر من وقف على الشّرفة ليلاً، أنا.
سهرت مع شمعة نافذتك البعيدة.
رأيتك تدور حول نفسك. تقوم وتقعد.
ترمي برأسك بين الرّاحتين.
تقبض على شعلتها. تسحقها.
رجوتك لو تضيء لي شمعة
كي أتوقّف عن الانتظار.

آخر نظرةٍ صامتة منّي
إلى جثّة مسافرٍ وحيد على رصيف
لم تجد من يستنكر أو يدين
إلى نعوشٍ سابقة على كتف نعوشٍ لاحقة
وإطار صورةٍ مكسور... وسط الظّلام
هل يرمّمون كل الأُطر
فأتوقّف عن الانتظار؟

أخشى ألا أجد نافذتك مفتوحةً في ليلة
ويهبط عليّ سقفي على حين غفلة
والمسافر لا يصل
والبلد برسم القتل
ونغفو فيودّعوننا بوردة وقبلة...
أفلا تمسك بيدي قليلاً
ربّما... حينها
أتوقّف عن الانتظار
في بيروت

صوت جوج وترجمة ميرفت وهزيمة رمزي لجحافل الكود المستبدّة أدناه جعلت هذه التّدوينة مميّزة جدّاً بالنّسبة لي. شكراً لكم :)







powered by ODEO





على فكرة، مرحبا ضحى في عالم التّدوين!

هروب
لا أشعر برغبةٍ في الكتابة. هي رغبةٌ في الهروب نحو الأحلام وحسب. في المرّة الأخيرة، سحبتني الأحلام لاثنتي عشرة ساعة متواصلة. بقيت مطبقةً فوق جفوني، تهدّدها إذا تجرّأت على الحركة، تؤخّر ساعة اليقظة على خبر دمارٍ جديد... يقصفون، فأحلم بشمسيّة متعدّدة الألوان. يزمجرون، فتتناهى تهويدةٌ من بعيد... صحيحٌ أنّني، في بعض الأحيان، أحلم بأناسٍ يُقتلون، وأرى سحاباتٍ متوهجة من النيران. لكنّها برهةٌ قصيرة تسرقني ريثما تسحبني الأحلام الأخرى في تيّارها من جديد. الغارات التي تعوي ليلاً باتت تبذل مجهوداً إضافيّاً كي تنتشلني من هذه القوقعة حيث حبست نفسي. واللّيل الصّاخب الذي يُقلق مَن حولي يمرّ على أذنيّ حملاً وديعاً. لا أعرف في أيّ عالمٍ أكون ساعتها، أو أيّ يدٍ تصدّ عنّي زعيقهم. جلّ ما أعرفه أنّ السّاعات تمضي وأنا نائمة. لا أريد أن أصحو. فالعالم الحقيقيّ يبدأ عندما أغلق عينيّ، وهذا الذي أراه على الشّاشات ما هو إلا كابوس يوشك على الانتهاء.

لا أشعر برغبةٍ في الكتابة. يهدّني التّعب. اليد الخفيّة تمسك بي من جديد. تريدني أن أترك لوحة المفاتيح هذه وأغفو. هي نفسها التي ضغطت على الزّر قبل قليل، وجعلتني أنتقل من القنوات الإخباريّة إلى كاري غرانت بالأبيض والأسود. بعيداً عن هموم نفاد الوقود، وانقطاع الكهرباء، وتدمير الجسور، ومشرّدي المدارس، وصور المجازر، جعلتني أتابع كاري غرانت ينقذ إنغريد برغمان، ويخبرها إنّها لن تتخلّص منه بسهولة. ترنّ العبارة الأخيرة في ذهني. "يا ريت خلاصنا متل خلاصك يا إنغريد!". أهرب من الألوان نحو خيالٍ مغمّسٍ بالأسود والأبيض. الألوان تؤذي عينيّ. تنضح بالأحمر القاني. أشعر بالذّنب. اليد الخفيّة تريح أصابعها فوق فمي. تقول يجب أن أهدأ. عليّ أن أترك جفنيّ ينسدلان. بهدوء... بهدوء...


في عالم اليقظة، لا طاقة لي على الحب. فرغت من المثاليّات. لست ملاكاً.
أسامينا


"بتعرف شو بيضايقني كمان؟ كيف بيلفظوا أسامينا بالأقنية الأجنبيّة. ضَيعتي وضيعتك، وكلّ المناطق مطرح ما بَيّي كان ياخدنا مشوار. هيك، عالماشي، متل الغريب اللي بيخَبرك إنّو حبيبك القديم خلص تجوّز أو مات أو انتحر، ومش شايف الوجع اللي عم بيصرّخ بعيونك. بتضايق كيف الكلمات بتتشوّه علسانهم... كيف بيجربوا يلفظوا الأسامي بس ما بتزبط معهم... وكيف كمان بيقروا، ما بيجربوا حتّى يسألوا عن الاسم. ساعتها، بيكون جايي عبالي إمسك هالريمونت كونترول وإرميه بوجّهم: إسمها "عيتا الشّعب"، "عيتا الشّعب" يا عالم! أو "مجدل سلم"، أو "مارون الرّاس"، أو "عين إبل"... طيّب طيّب، ما تقلّي، بعرف إنّو حروفنا، وأسامينا، ولغتنا.. كل شي فينا.. صعبة ينظروله نظرتنا نفسها. بس أنا مغرومة حتّى بقساوة حروفنا، وخشونة صوتك، لمّا تقول من جوّا قلبك: "عيترون"! أصلاً... أصلاً... مش شايفهم كيف بيحكوا عَ نهر اللّيطاني؟ ولا كأنّه كنّا نروح لهونيك مع البوطة، ونفرش الشّراشف الملوّنة، ونلعب ورق، وإنتَ تحملني وتغطّسني بالميّات! ولا كأنّه كان في ولاد يلعبوا حدّ شجراته! ولا كأنّه بعد في كتير ولاد رح يلعبوا تحت شجراته... مش سامعهم كيف بيذكروا الخيام؟ ولا كأنّه كنت صيّف هونيك، وواحد من ولاد الجيران على طول يتمسخر عليّ! ولا كأنّها محمّلة باصوات كانت تصرّخ بالليل من حبس التّعذيب! ولا كأنّه منغنّيلها، كل ما وصّينا اللي "اللّي رايح صوب بلادي" إنّو يوصّل السلام! وهلّق هنّ وعم بيقولوا بعلبك، يا ترى بيعرفوا إنّو فيها تاريخ، وحكايات، وحجر عمره أكبر من بلادهم كلها؟

بتعرف؟ من ورا كلّ اللي صار، أوّل مرّة العالم كلّه عم بيسمع بأسامينا.. أسامي حتّى نحنا ما كنّا سامعين فيها. لازم تشوف كيف كانوا عم يلفظوا "دير عامص" من شوي. أو "دبعال". أو "رشكناناي". متل اللي ناطر حدا ينجّيه من غول بيخوّف. يلا... ما نحنا هيك. ما بيتذكّرونا إلا هيك. ما بيعرفونا غير هيك: خُبراء مآسي وحروب. ما بيعرفوا إنّو نحنا، على قد ما اتمرّسنا بالأحزان، تعلّمنا كمان نضحك... حتّى لو كتير مرّات منضحك على حالنا.

بتعرف شو جايي عَ بالي كمان؟ بَوّس "ستّي" و"جدّي" اللي بتصوّرهم كاميراتهم: كل ختيار بيخبّرهم باللهجة الجنوبية إنوّ "إسّي آني منّيش فالل من هون!"... حتّى لو ترجموا الكلمات صحّ، قولك بكونوا فهموا عن جدّ شو يعني "بيتنا ما منتركه لحاله باللّيل أبداً"؟

كلّ هالخراب... وأسامينا، بنظرهم، مش أكتر من نشرة أخبار.

...
عيد! بأيّ حالٍ عدتَ يا عيد



وفي اللّيل...
بين الشّوارع الذّابلة ليلاً، وتلك التي تشكو شوقها إلى الأنوار، أتمشّى أنا وإيّاها. فعلنا ذلك مراراً في السّابق، لكنّ منطقة الحمراء لم تقابلنا مرّةً كما تفعل الآن، بهذه البرودة المطبوعة على جدرانها، وتلك الأخيلة البشريّة المنطرحة على أرصفتها. حتّى أيّام إقفال مقاهيها المفضّلة، وفروغها من الطّلاب أوّل الصّيف، ووحدتها في عطل نهاية الأسبوع، لم يكن وجه الشّارع بهذا البؤس الذي نراه عليه الآن.

"الحمرا هذه الأيّام تكاد تكون النّبض الوحيد المتبقي في بيروت، الموئلَ لمن يريد السّهر مع قلقين مثله... مع لاعنين للحال وكافرين بالآلهة مثله... مع هواة التّرحم على وسط بيروت ومونو... مع الرّاغبين في إطفاء حزنهم مع كأسٍ ودخان سيجارة... مع الباحثين عن النّسيان..."

هكذا يُقال هذه الأيّام... فنهرع إلى الحمرا.

أتمشّى أنا وإيّاها. تسألني صديقتي السّؤال الذي لا يتغيّر: "إيف، متى ينتهي هذا الكابوس؟"
أنظر إليها. أفتح فمي وأهمّ بالكلام. أتذكّر أنّها لا تنتظر منّي جواباً.

في المقاهي، الأشخاص أنفسهم الذين كانوا، قبل مدّة، مسمّرين أمام الشّاشات، تتبّعاً للمونديال، يتسمّرون ثانيةً إزاء صورٍ وحشيّة. الجزيرة والعربيّة والقنوات المحلّية: الهواية المفضّلة للّبنانيّين. وعلى غرار أيّام المونديال، تنطلق الهتافات للخسائر التي تحلّ بالجيران المسلّحين عند الحدود، والشّتائم لمشهد أولمرت وحبيبة قلبه كونداليزا، فصيحات التّحسر والوجع على الجثث المنتشلة. الأمر يشبه فيلم ويسترن، باستثناء أنّ راعي البقر القادم من الغرب سكّيرٌ يشهر أسلحته في عيون الأطفال.

الطّقس حارّ. حارّ بشكلٍ لا يُحتمل. محمّل بدخان القذائف ولهاث القتلى. حتّى إنّنا لا نعرف أن ننام ليلاً. نعم، لا بدّ من أنّه الطّقس. أبحث عن نسمة هواء. الشّارع مظلمٌ مظلم. أفتّش عن ضوءٍ.. عن نورٍ شحيح. أكاد أصطدم بشخصٍ افترش الأرض. أطلب من سيّارة أجرة أن تصحبني بعيداً. بعيداً عن هذا المكان. يجيبني السّائق: "لكنّ الأمكنة كلّها تشبه هذا المكان!". هو أيضاً يتكلّم اللّغة نفسها، كروّاد المقاهي، والنّائمين في الشّوارع، وصديقتي. هو أيضاً لا يعرف أن ينام.

- وأنتَ... أين تنام يا عم؟
يمدّ يده بحركةٍ واسعة، ويشير: "هنا".
أتنسّم خجلاً في صوته. وتلزمني مدّة كي أدرك أنّ "هنا" تعني مقعد السيّارة حيث يجلس في تلك اللّحظة.


ثمّ يسأل السّؤال نفسه: "متى ينتهي هذا الكابوس؟"
أنظر إليه. أفتح فمي وأهمّ بالكلام. أتذكّر أنّه لا ينتظر منّي جواباً.
!!!!!




طَيبين؟

لحم الولاد هنّ ونايمين؟

طَيبين؟؟

والجثث اللي احترقت هي وعم تحلم؟

حلوين؟

وسيّارات الإسعاف اللي عم تنقصف؟

والدّم اللي بنقّط من الحيطان؟

واللي تحت الحجر بعدهم عايشين؟

كل شي عَ ذوقكم؟ راضيين؟!



عشرين يوم وإنتو عم تعلكوا قلوبنا

واسنانكم صفرا وريحتكم نتنة

عشرين يوم وإنتوا عم بتكبسوا زرارنا

والعالم، شي بيزقّفوا وشي ساكتين

عشرين!

بدكن بعد...

أكتر من عشرين؟



عدالة؟ رحمة؟ دين؟

هه! لك أيّ دين؟

طز بهالعالم

مطرح ما الملايكة بيموتوا

وبتوعى الشياطين

يوم آخر
أعود إلى العمل. أدخل إلى المكتب. أرى حياتي كما كانت قبل أسبوعين. إزاء عينيّ، تتمثّل تلك اللحظة حين رميت بأقلامي، ولملمت حاجاتي الصّغيرة، وقلت: "طيّب يا شباب! بعثتم فيّ ما يكفي من الملل! ألقاكم في الغد". موعداً كاذباً كان. أرى أوراقي كما هي مبعثرةً هنا وهناك، وقواميسي، على حالها، مفتوحة على كلماتٍ أدخلتني في متاهاتها... قبل أسبوعين فقط. أقرأ الرّسائل المتراكمة في بريدي. مزيدٌ من الكلمات. آخر محادثةٍ لي كانت مع زميلٍ لم أقابله، من النّاحية الأخرى للكرة الأرضيّة: "هات ما عندك أنت أيضاً، ما سرّ النّطحة الشّهيرة؟" أقرأ الإجابة لكنّني لا أقرأها فعلاً. إمّا أنّ الكلمات أصبحت غريبة جدّاً.. أو أنّني، أنا، بتّ غريبةً عن الكلمات...

رسالة إلكترونيّة أخرى، عمرها أسبوعٌ أو ما يقارب... من صاحب الكرسيّ الفارغ إلى جانبي.
"آسف لأنّني لم أقل وداعاً".
زياد...
نجحوا أخيراً في ردّك إلى "بيتك الصّغير في كندا".
زياد...
أكره الكراسي الفارغة إلى جانبي.

أكثر من خمسة أشخاص اليوم أخبروني عن رحيلهم. أكثر من خمسة في يومٍ واحد! كثيرٌ عليّ هذا يا ربّي...

أمشي في وسط الطّريق. وسطه تماماً. لمَ لا تزمجر السيّارات في وجهي؟ لمَ لا ينعق بوقٌ من خلفي؟ لمَ لا يأمرني أحدهم بأن أتفضّل فأمشي على الرّصيف؟ لمَ لا أسمع عبارة: "شو عميا؟ ما بتقشعي؟" ؟ لمَ لا يحرّر شرطيٌّ مخالفةً بحقّي؟ لمَ لا يحتجّ أحدٌ، أيّ أحد؟ لمَ كلّ هذا الصّمت؟ لمَ، دائماً، كلّ هذا الصّمت...

أرى ليلى تركض ضاحكةً في الحيّ. باتت تشبه الصّبيان بشعرها القصير. يومَ جاؤوا بها إلى هذه المدرسة، أخبروها أنّهم سيجزّون شعرها الأسود الطّويل توفيراً لمياه الاستحمام. لم يهدأ صوت نحيبها تلك اللّيلة. لكن لمّا أمسكوا بالمقصّ في اليوم التّالي، أغمضت عينيها بقوّة ولم تقل شيئاً. لم تر كيف أخذت خصلاتها تتساقط الواحدة تلو الأخرى... بهدوء، كجرائم تُرتكب في الخفاء... بانسياب، كريشةٍ تنهي ارتحالها عند حدّ سكّين... بوقاحةٍ، كأعمى يسحق فراشات. فليسجّلوا هذا بنداً على لائحة فظائعهم، أربابُ الدّمار. فلينعقد مجلس الأمن مرّةً أخرى. فليجهزوا تابوتاً إضافيّاً... لشعر ليلى.

أفتح التّلفزيون. أصغي إلى ورقة النّعي اليوميّة. أسماءٌ ووجوهٌ متتالية. أشعر بالعار إن غيّرت القناة قبل عرض صورهم كاملةً. أشعر بالعار إذا ضاع منّي اسمٌ واحد... أرى صورهم كاملةً، أسمع أسماءهم واحداً واحداً، فأشعر بالمزيد من العار.

أصغي إلى جريحةٍ تتكلّم.
"انهار المنزل فوق رؤوسنا. غبارٌ وأحجار ودماء. عرفت ابنتي من يدها. مددت ذراعي، فعرفت ابني من شعره. وسألت زوجي المسجّى إلى جانبي:

- أما زلتَ حيّاً؟

فسمعته يجيبني: نعم، لكنّني فقدت قدميّ."

أقفل جهاز التّلفزيون. أخرج إلى الشّرفة. أحتاج إلى الهواء.
وجوه لبنان الجميلة
أخرج من بيتي كلّ يومٍ كي لا أضطر للنّظر إلى وجهي في المرآة. أهرب نحو شوارع كامدة ومحال مغلقة. أرى وجهي لا ينفكّ يطالعني في الواجهات.

أنسى في أيّ يومٍ نحن. تضيّعني الأيّام. أطلب من الصّيدليّ درسي الأوّل في المهدّئات. أرى وجهي في نظرته، وحركات يديه، وحبّة الدّواء.

أفتح بريدي. أصدقاء. غرباء. مقابلات. أصوات رقيقة. أجيب بأنّني بخير. أرى وجهي يومض بين الفواصل والكلمات.

أبحث عن صرختي التي لم تخرج إلى العلن بعد. صمتٌ حانق، جافّ، يرقص على وقع قرعٍ مستمرّ بين الأذنين. أفعل أيّ شيءٍ كي يتوقّف القرع العنيف. أصلّي كي تجتاحني آلامي الشّهرية سريعاً، فأنسى الألم الذي يتخبّط داخل رأسي. أصلّي أن أتقيّأه مع كلّ ما علق في داخلي من اشمئزاز وحقد وجثث محروقة وعالمٍ لامبالٍ. أصلّي ألا تنظر إليّ هذه الوجوه التي، كلّما حاولت أن أغمض عينيّ، نزعت عنّي كفيّ وزادت فيّ تحديقاًَ.

كم تحمل وجوهنا من عبق هذه الأرض؟ كم علق فيها من تراب وغبار وأوراق ومواعيد؟ كم تشبه كرومَ البقاع وتفاح الجبل وقلعة صيدا وميناء صور؟ كم في هذي الوجوه من شمس الصّيف وجنون كانون، وزخّات المطر فوق الشّبابيك أواخرَ أيلول؟ كم تغصّ وجوهنا بتفرّعات جداول، ومنعطفات طرقٍ جبليّة، وغصون أشجار تسلّقناها، وقبلٍ أولى سرقناها... كم في وجوهنا من همومٍ أتبعناها بابتسامات، ودموعٍ أعقبناها ضحكات... كم في وجوهنا منك يا لبنان...

في التّلفزيون، متّصلٌ ينعي ليال نجيب، الصّحفية التي قتلت عن 23 عاماً جرّاء القصف الإسرائيلي. لعلّه الوجه الذي كانت تنيره ليال يتكلّم. الصّوت يهمس لها: "أنت أيضاً تشبهين لبناني: جميلة، ومثقّفة، وذكيّة، وقدرك دائماً الموت في النّهاية." كلّ هذه الوجوه... لبنان في كلّ مكان... وأنا لا أقدر أن أنظر...

وأنتَ... تأتي لتنزع كفيّ عن وجهي، وتأمرني بالنّظر. يعلو صوتك: "أنظري، أنظري!"، فيما تقيّد حركة يديّ المتعبتين. وتظلّ تأمرني إلى أن أصرخ أخيراً، صرخـةً أبعد من كلّ حدود الأرض. صرخةً أقوى من كلّ تفاصيل الزّمن. صرخةً لأجل كلّ تلك الوجوه الجميلة.
ما تخافي يا ماما
في حديقة الصّنائع في بيروت، حيث النّازحون ينامون في العراء، يجلس أطفالٌ في فيء شجرة، يرسمون طائراتٍ سوداء وقذائف.

في حديقة الصّنائع في بيروت، يركلون كرةً ويلعبون "اللّقيطة"، كي ينتقموا من الذّباب الذي يتآكلهم ليلاً.

في حديقة الصّنائع، صبيّ صغير رصدته الكاميرا. يصمت. يشيح النّظر. ينظر ثانيةً. ثمّ يتكلّم بخجل.

- وين الماما؟
- هونيك. عم تبكي.
- ليش عم تبكي؟
- لأنّو الطّيارات قصفت البيت. بيتنا وقع...

يطأطىء رأسه نحو الأرض ويضيف: "هي مفكرة إنو بطّل عنّا بيت."

ثمّ يدّس يده في جيبه، يخرج شيئاً، ويعلن بانتصار:

- بس أنا قلتلها ما تخاف... أكيد رح نرجع عالبيت. أنا جبت معي المفاتيح. حتّى شوفي!
هيك أنا بدّي




بدّي العجقة. والعالَم تملّي السّاحة من جديد
بدّي زمامير السيارات تلعلع من الشّارع القريب
بدّي طابات الولاد تعلق بين إجريّ
وريحة الأراكيل والمعسّل والقهوة المغليّة
بدّي بيّاع البالونات والرّسام وعازف الأكورديون
وتفشيخ السّبت والسّهرانين والأعراس الجماعيّة
بدّي نفتل ما نلاقي ولا كرسي فاضية هون
بدّي نرجع نتمشّى وتجرّب تمسك إيدّي
بدّي...
وبدّي...
وبدّي...

على قد ما لبنان عم بدمروه
على قد ما بالقسوة قلبي عم بعبّوه
على قد ما أملي بجربوا كتير يطفّوه
بعرف كتير منيح
إنّو رح يصير متل ما بدّي!

*صورة لوسط بيروت، المشتاق إلى الحياة.
About Me

Name: Eve
Home: Beirut, Lebanon
See my complete profile




Who Are You?

Free Guestmap from Bravenet.com Free Guestmap from Bravenet.com

الموووود

My Unkymood Punkymood (Unkymoods)

بعضٌ منّي... بعضٌ منهم
هفوات مبارح
هفوات بعيدة

على الرّف

dominique

Powered by

15n41n1
BLOGGER