أعود إلى العمل. أدخل إلى المكتب. أرى حياتي كما كانت قبل أسبوعين. إزاء عينيّ، تتمثّل تلك اللحظة حين رميت بأقلامي، ولملمت حاجاتي الصّغيرة، وقلت: "طيّب يا شباب! بعثتم فيّ ما يكفي من الملل! ألقاكم في الغد". موعداً كاذباً كان. أرى أوراقي كما هي مبعثرةً هنا وهناك، وقواميسي، على حالها، مفتوحة على كلماتٍ أدخلتني في متاهاتها... قبل أسبوعين فقط. أقرأ الرّسائل المتراكمة في بريدي. مزيدٌ من الكلمات. آخر محادثةٍ لي كانت مع زميلٍ لم أقابله، من النّاحية الأخرى للكرة الأرضيّة: "هات ما عندك أنت أيضاً، ما سرّ النّطحة الشّهيرة؟" أقرأ الإجابة لكنّني لا أقرأها فعلاً. إمّا أنّ الكلمات أصبحت غريبة جدّاً.. أو أنّني، أنا، بتّ غريبةً عن الكلمات...
رسالة إلكترونيّة أخرى، عمرها أسبوعٌ أو ما يقارب... من صاحب الكرسيّ الفارغ إلى جانبي. "آسف لأنّني لم أقل وداعاً". زياد... نجحوا أخيراً في ردّك إلى "بيتك الصّغير في كندا". زياد... أكره الكراسي الفارغة إلى جانبي.
أكثر من خمسة أشخاص اليوم أخبروني عن رحيلهم. أكثر من خمسة في يومٍ واحد! كثيرٌ عليّ هذا يا ربّي...
أمشي في وسط الطّريق. وسطه تماماً. لمَ لا تزمجر السيّارات في وجهي؟ لمَ لا ينعق بوقٌ من خلفي؟ لمَ لا يأمرني أحدهم بأن أتفضّل فأمشي على الرّصيف؟ لمَ لا أسمع عبارة: "شو عميا؟ ما بتقشعي؟" ؟ لمَ لا يحرّر شرطيٌّ مخالفةً بحقّي؟ لمَ لا يحتجّ أحدٌ، أيّ أحد؟ لمَ كلّ هذا الصّمت؟ لمَ، دائماً، كلّ هذا الصّمت...
أرى ليلى تركض ضاحكةً في الحيّ. باتت تشبه الصّبيان بشعرها القصير. يومَ جاؤوا بها إلى هذه المدرسة، أخبروها أنّهم سيجزّون شعرها الأسود الطّويل توفيراً لمياه الاستحمام. لم يهدأ صوت نحيبها تلك اللّيلة. لكن لمّا أمسكوا بالمقصّ في اليوم التّالي، أغمضت عينيها بقوّة ولم تقل شيئاً. لم تر كيف أخذت خصلاتها تتساقط الواحدة تلو الأخرى... بهدوء، كجرائم تُرتكب في الخفاء... بانسياب، كريشةٍ تنهي ارتحالها عند حدّ سكّين... بوقاحةٍ، كأعمى يسحق فراشات. فليسجّلوا هذا بنداً على لائحة فظائعهم، أربابُ الدّمار. فلينعقد مجلس الأمن مرّةً أخرى. فليجهزوا تابوتاً إضافيّاً... لشعر ليلى.
أفتح التّلفزيون. أصغي إلى ورقة النّعي اليوميّة. أسماءٌ ووجوهٌ متتالية. أشعر بالعار إن غيّرت القناة قبل عرض صورهم كاملةً. أشعر بالعار إذا ضاع منّي اسمٌ واحد... أرى صورهم كاملةً، أسمع أسماءهم واحداً واحداً، فأشعر بالمزيد من العار.
أصغي إلى جريحةٍ تتكلّم. "انهار المنزل فوق رؤوسنا. غبارٌ وأحجار ودماء. عرفت ابنتي من يدها. مددت ذراعي، فعرفت ابني من شعره. وسألت زوجي المسجّى إلى جانبي:
- أما زلتَ حيّاً؟
فسمعته يجيبني: نعم، لكنّني فقدت قدميّ."
أقفل جهاز التّلفزيون. أخرج إلى الشّرفة. أحتاج إلى الهواء. |
Don't know what to say.:(