دائماً يتكرّر المشهد نفسه. ننساه لفترة لكنّه يظلّ رابضاً. يعود دائماً أو يحمل في غيابه وعيد العودة: مشهد الأجساد المتراصّة حول أجهزة التلفزيون، والعيون الشّاخصة أبداً نحو المشاهد المتلاحقة... مشهد الوجوه الحافلة بالتّرقب، والقلب الذي ينتظر تكذيباً، أيّ تكذيبٍ، لرائحة الجثث المحروقة.
كأنّ الخبر غير المؤكّد، والمصادر غير الرّسمية، والشّائعات، والأقاويل، والاحتمالات، كأنّها كلّها تشرّع باب الأمل على مصراعيه، وتحوّل بصيص النّور شمساً ساطعة.
كأنّ المحال يمكن، لوهلةٍ، أن يغدو حقيقة.
كأن...
لكن ما هي إلا هنيهات وجيزة حتّى تظهر الكتابات في أسفل الشّاشة، ويعلو صوتٌ متهدّج: "الاغتيال مؤكّد. لقد قضي الأمر." دائماً المشهد نفسه: تنسدل الجفون.. تصدح الأصوات بسؤالٍ أخرس.. تنشلّ الحركات.. تنتهي الرّواية.. يتوقّف العالم!
قضي الأمر. الكفّ التي حملت نعش سمير قصير قبل بضعة أشهر، غداً يقبل من يحملها. والحلقة مفرغة.
أعرفها هذه الكفّ. وأذكر الفرحة التي غمرتني حين خصّني صاحبها، جبران تويني، بمقابلةٍ معه منذ ما يقارب السّنتين.
كنت في طور البحث عن عملٍ، وكانت عيني على جريدة النّهار. قمتُ بتحرير طلبَي عملٍ حينذاك، أحدهما أرسلته إلى رئيس تحرير إحدى الصّحف، مرفقاً بسيرتي الذّاتية، ورسالةٍ رسميّة روتينيّة اعتياديّة (لكن طبعاً لم ألقَ جواباً). ولمّا كان جبران تويني شخصاً غير اعتياديّ، كان لا بدّ من طلبي الثّاني أن يكون صادماً لدرجة الاستحواذ على انتباهه، ومنعه من رمي سيرتي الذّاتية في سلّة المهملات، أو تكديسها فوق مئاتٍ غيرها. انطلاقاً من ذلك، كتبت له رسالة بعنوان: "عشرة أسباب لمَ يجب أن توظّفني". لا أذكر بالضّبط الأسباب كلّها، لكن أذكر أنّني تركت نفسي أكتب على سجيّتي، انطلاقاً من مقولة أنّني لن أخسر شيئاً؛ فأوردت ما تأكّدت أنّه سيضعه في موقفٍ حرج بينه وبين نفسه، في حال رفض: "حتّى تثبتَ لي أنّ جريدتك التي تدعو إلى الحريّة والكرامة والمساواة بين جميع اللبنانيّين لن تضطرني للحصول على واسطة كي أنال الوظيفة." بعد أقلّ من شهرٍ، تلقّيت اتّصالاً، وحصلت على موعد! كنت طبعاً في حالةٍ من عدم التّصديق، والهلع، والاضطراب وكلّ ما يمكن تصوّره من مشاعر متضاربة. قال لي عندما سألته عن ردّة فعله تجاه ما أقدمتُ عليه إنّ نبضي قويٌّ، وإنّه شعر بفضول ليقابل صاحبة الرّسالة. تكلّمنا لربع ساعة ربّما؛ ثمّ سلّمني نماذج للتّرجمة، أوليتُها عناية بالغة طبعاً. ومع أنّ جواب السّكرتيرة بعد أسبوعين كان: "النّماذج جيّدة، لكن ليست لدينا وظيفة شاغرة الآن"، إلا أنّ تمكّني من مقابلته، بمجهودي الفرديّ لا غير، خفّف قليلاً من وقع خيبتي.
هذه الحادثة مجرّد ذكرى الآن. لكنّها ذكراي أنا. كانت ملكاً لي، وللرّجل الذي يودّعه لبنان غداً. وهي اليوم ملكٌ لي... وحدي.
كم من رحلةٍ شائكة إلى ساحة الشّهداء سيكلّفنا حبّكِ أيّتها الأرض الثّكلى؟ |
...