الخطاب الشّهير الذي أدلى به الرّئيس السّوري هو اليوم على كلّ شفةٍ ولسان. هو خطاب يتجاوز كلّ المقاييس... يطيح بكلّ حدود العقل والمنطق، ويضع كلّ مطالبٍ بالحقيقة في لبنان في خانة المتعامل الإسرائيليّ والمتآمر على المصلحة الوطنيّة. كيف لا وقد جرت العادة في هذه النّاحية من البلاد أن نوجّه أصابع اللّوم، كيفما اتّفق، نحو جيراننا من ناحية الجنوب، سواء أتعلّق الأمر بهم فعلاً أم لم يتعلّق؟
من أبرز معالم هذا الخطاب إقدامه، على سبيل المثال لا الحصر، على وصف رئيس وزرائنا بأنّه عبدٌ مأمور، لعبدٍ مأمور، ولصق صفة الخيانة والإتجار بالدّماء بتيّار "المستقبل"، واعتبار لبنان مجرّد ممرّ للتّآمر على سوريا، إلخ... في خطوةٍ ما زالت لا تُجلي سرّ الامتناع المستمرّ عن التّعاون مع لجنة تحقيقٍ دوليّة. أهو تكبّر؟ غرور؟ عناد متصلّب؟ عقابٌ لبلدٍ تجرّأ على المطالبة بأبسط حقوقه؟ أم مجرّد رغبةٍ في السّباحة عكس التّيار؟
وفي خطوةٍ تكاد تكون أشبه بأضحوكة مبكية، يفاجئنا الوزراء اللّبنانيّون الشّيعة الخمسة- أو قل لا يفاجئوننا إلى هذا الحدّ- بالانسحاب من جلسة مجلس الوزراء التي انعقدت لمناقشة الرّد على كلامٍ لم يستهدف رئيس الوزراء وحسب، بقدر ما استهدف اللّبنانيّين أجمعين، ولم يطعن في كرامة رئيس الوزراء وحسب، بقدر ما هدف الغمز من قناة اللّبنانيّين أجمعين. ولعلّ سلوكهم هذا يطبع في الأذهان فكرةً لا لبس فيها، وسؤالاً لا يتوسّل إجابةً: كيف ترجح كفّةُ جبهةٍ خارجيّة، بالنّسبة لرجال برّي وحزب الله، على حساب جبهتهم الوطنيّة اللّبنانيّة، وبهذا الشّكل المخجل الفاضح؟ بالنّسبة لحزب الله، مهما كان نوع الدّعم المادّي أو العسكريّ الخارجيّ الذي يحصل عليه، فلعلّ الإحجام عن التّصرف بحكمة على صعيد الشّؤون المحلّية هو الورقة الرّابحة التي تنقصه في سبيل الحصول على الدّعم الدّاخليّ أيضاً. أمّا بالنّسبة "لجارنا الإستيذ" رئيس البرلمان، فطالما أنّه متربّع على عرش مجلسه، منذ أسحق عهود التّاريخ وحتّى عهدٍ لا ندري له نهايةً، لا عجب إذ ذاك من هذا الموقف المثير للسّخرية. ولا عجب أيضاً أن تمسي كافة الأطراف الشّيعية في لبنان مصنّفة، رغماً عن أنفها، باتّباعها أحدَ الطّرفين المذكورين لا محالة. بانتظار تغيير رئيس المجلس التّشريعيّ (أو بانتظار غودو، لا فرق)، أظنّ أنّه من الضّروري أن أبدأ بالتّكيّف مع الطّريق المقطوعة أثناء التّوجه إلى العمل يوميّاً، والكاميرات المرصودة فوق أسطح البنايات، ورجال الأمن المنتشرين في الحيّ حرصاً على سلامة "جارنا الإستيذ"، وما إلى هنالك...
على صعيدٍ آخر، وبالعودة إلى الخطاب، لا أدري لماذا نحن محكومون، بعد كلّ تعليقٍ على مسألةٍ مماثلة، أن نبرّر أنّ تحرّكات اللّبنانيّين غير موجّهة ضدّ الشّعب السّوريّ البتّة. ربّما لأنّ التّصريحات الرّسمية السّورية تضعنا دائماً في خانة المخطِّط لفرض عقوباتٍ دوليّة على الشّعب السّوريّ، الأقرب إلينا من أيّ شعبٍ آخر، خاصّةً وأنّه يصعب أن تجد عائلةً في لبنان لا تحتوي على فردٍ ذي أصلٍ سوريّ، والعكس صحيح. ولعلّ أبرز مظاهر هذه الاتّهامات تتجلّى في الرّسوم الجديدة التي فرضتها السّلطات السّوريّة على كلّ من يعبر الحدود اللّبنانيّة السّورية، ذهاباً وإياباً، كردّة فعلٍ تبدو للرّائي أنّها لا تتعدّى كونها إجراءاً انتقاميّاً، تماماً كمسألة عرقلة مرور شاحنات البضائع اللّبنانيّة إلى الدّاخل السّوري.
أمّا بعد، فبعيداً عن كلّ النّعوت التي يمكن أن تُطلَق على خطاب الأسد، فلعلّ الصّفة البارزة، بالنّسبة إليّ، هو تغليبه الانفعالات على الخطوات الحكيمة التي يفترض برجلٍ سياسيّ أن يتّخذها في هذا المجال. على ضوء هذه التّطورات، يترقّب البعض ردّة فعل المجتمع الدّوليّ، ولجنة التّحقيق الدّوليّة، وكافة العناصر التي كانت تنتظر، في مجلس الأمن، خطوة بشّار المقبلة. |
أعتقد أنّه لدينا كامل الحق بمتابعة التحقيق سواء أعجب ذلك الدكتور بشّار أم لم يعجبه ومعاقبة من تثبت إدانته بأقصى وأشد العقوبات. من ناحية ثانية أصبح جلياً أن أمريكا تريد إستغلال الموقف للسيطرة على القرار السوري وتنصيب نظام حكم موالٍ لها هناك (كما سبق وفعلت في أفغانستان والعراق وغيرهما). السؤال هو هل يمكن محاكمة مرتكبي جريمة إغتيال الحريري بدون جعل سوريا عراقاً ثانية؟