عيسى مخلوف من جديد:
"الذي يمضي، لنتركه يمضي. كالنهر لا نحرفه عن مجراه. كالغيمة السّارحة. الذي يمضي حتّى لو عاد إلينا، لن يعود. لأنّه من جهة الغياب عائد. يلوّح به كلّ لحظة، بعدما كان الغياب، في الماضي، سرّاً وراء إشراق وجهه. يمضي الوجه ويبقى جماله. ينطفىء المصباح ويبقى النّور. الذي يمضي لنتركه يمضي. لا نتعقّب أثره ولا نناديه. ولا نتحسّر على عدم قولنا له الكلمة الأخيرة. ولمَ الانتظار وهو أصبح خارج انتظارنا له. حرّاً، طليقاً؟ خارج الانتظار، لا يعود من حاجة إلى الآخر الذي نفرغ منه كمن يطبق كتاباً وينام. ثمّ حين نصحو نرى الوقت الذي لا يُرى. نراه يعبر من أمامنا ومعه أجسادنا جميعاً. مطعونةٌ هي تلك الأجساد ولا تسيل منها الدّماء. الذي يمضي، لنتركه يمضي. تلك الظّهيرة، وقفتِ على شاطىء البحر. أرخيتِ رأسكِ إلى الوراء والتفتّ إلى أعلى حيث تحوم النّوارس. ذلك النّورس بالذّات، وكان يحاول الاقتراب منكِ. يقترب ويصيح ولا يجرؤ على الاقتراب أكثر. كأنّه لا يجرؤ على اختراق حدود غير مرئيّة. وأنتِ جامدة في موضعك. كنت تصرّين في وقفتك على معرفة ما يريد إيصاله إليك. على علوّ منخفض يطير مترنّحاً منسكباً، ثمّ فجأة يجمد في مكانه، فوق رأسك تماماً، ومنقاره مصوّب نحوك. بعد أن أطلتِ التّحديق به، تلتفتين إليّ وتقولين: "الطّير الذي في عليائه هو أنتَ. لكن لماذا لا تتقدّم؟ لماذا تنظر إليّ كأنّك لا تعرفني. تشتهيني من بعيد كمن يشتهي امرأة غيره. تقدّم. تعال وخُذني"... من يمضي لنتركه يمضي ولا نتعقّب أثره. من الآن فصاعداً سيكون بلا أثر. خفيفاً كالهواء. الذي يمضي لا يعرف أنّه يمضي. يسير على الدّرب ذاتها التي جاء منها. لنتركه يذهب من يريد أن يذهب. نلتفت إليه محفوراً في داخلنا. نضراً كما كان يوم كان. نلتفت إلى الدّاخل نجد فيه ما لا يجده هو في نفسه.
الذي يمضي لنتركه يمضي بسلام." -----------------------------------------
وصلت إلى نهاية الكتاب الذي تحدثت عنه مسبقاً. كان لا بدّ من أن أفرغ منه يوماً ما، مهما تعمدت التّأني في القراءة. لا لم تكن قراءة. قل نوعاً من الصّلاة الصّامتة. ختمَتْها هذه الصّفحة الأخيرة. دائماً تشدّني الصّفحات الأخيرة. ينتهي المؤلّف منها كمن يبلغ قمّة جبل النّشوة، والسّفح من ورائه بعيد، والأقنعة بعيدة، والحبّ بعيد، والبشر، والشجن، والعجز، والرّغبات المكبوتة، وحبيبات التّراب التي تمرّغ وجه الأرض. تختصر العمر هي، نقطةُ النّهاية. تختصر لحظة الاتّحاد الوجيز بالذّات... لحظة الضّجيج المتدفّق الذي يليه سكونٌ بلون الصّقيع. هي نقطة النّهاية التي تُخرس، بشكلها الطّفيليّ، كلّ انتفاضاتك المتقلّبة؛ التي تشطرك شطرين، أحدهما يرتّل في قلب اللّيل، والآخر يطنّ في وهج النّهار؛ التي تطرحك كجسدٍ متهالك فوق فراغ صفحاتٍ لن تأتي... وحده لهاث النّفس وراء السّرابات الجميلة حاضرٌ، صارخٌ، يشدو بكلّ ما أوتي من قوّة. . . .
اللي بعدن عم يقروا لهلّق، عندي لإلكم رسالة صغيرة. رح إبعُد لفترة عن عالم المدوّنات، حتّى إشعار آخر إذا بدكن. السّبب مش هالقد مهمّ، بس فيكم تقولوا إنّي ما عندي شي قوله... أو يمكن يكون في عندي، بس مش حاسّه هالحماس القوي حتّى قوله. حتّى كتابة هال كم كلمة هول، حاسه إنّها عم تاخد منّي مجهود جبّار، وعم بتضايقني كتير. والكلمات لمّا تصير تضايق، أحسن شي الواحد يبعد عنها، ويروح ينطر تحت شجرة. هونيك، بالفيّ. أنا بعرف. والأحسن كمان إنّو ما ينطر، وينسى كيف العالم هالإيّام بينطروا. يمكن بدّي روح حتّى إرجع اشتاق، متل أوّل نهار. ويمكن بدّي روح حتّى أعطي إشيا تانية جوّاتي حقّها. ويمكن القصّة قصّة تعب، مش أكتر. قلتكم، مش مهمّ السّبب. ما في شي مهمّ. لأنّو الحياة مرّة بتمرق، ولأنّو ما في شي بيحرز ينهمّ الواحد كرماله. "المهمّ" مفهوم نسبيّ أصلاً، وبالآخر بيطلع معي دايماً إنّو ما في شي بيحرز. |
If you dun mind, I have added a link to your blog at mine