كلّما مررت بتلك المدينة، أغمض عينيّ. وفي كثير من الأحيان، أغمض قلبي كذلك. أكثر من خمس سنوات مضت على هجري لها. أكثر من خمس سنوات على نسياني لأماكن تركتها تنهش من لحمي، وتركتني هي أتنشّق من رحيقها المرير جرعاتٍ زائدة.
هجرتها لأنّها مدينةٌ بلا نهر. بلا مدى متموّج يغسل قدميها صباحاً، ويلعب عند محيط خصرها عندما تغازله شمس الظّهيرة، ثمّ يعود إلى ضفّتها ليلاً ليحكي شوقه إليها ويمطرها بقبلات محرّمة. هجرتها لأن لا نهر فيها يأتيني من آخر الأرض، ليدغدغ أصابع قدميّ ليلاً. لأن لا نهر أُسرّ له بألحاني، فيخبرني هو عمّن رقصوا على سطحه رقصة الغجر. لا نهر يجرف جفاف قلبها البائس، ويفيض عليها حين تذرف بين كفّيه دمعةً يتيمة. هجرتها لأنّني مشيت حافيةً على أرضها القاحلة، فكاد جوفها الظّمآن يمتصّ شراييني؛ جوفها الذي يغنّي كرومَ عنبٍ وهميّة، وينتشي بكؤوسٍ فارغة. هجرتها لأن لا مكان فيها أخلع عنّي رداء همومي، وأترك ذراعَي النّهر تسحبني، رويداً رويداً، نحو أعماقه الحافلة بحكايا الزّنبق.
لأنّها المدينة البلا وقت، هجرتُها. مدينة الاحتضار الأبديّ الذي لا يعانق موته قطّ. مدينة الإبداع الذي يخال نفسه إبداعاً، لكن حين ينظر في المرآة، لا يرى إلا انعكاس خيباته المتأصّلة، في خصلةٍ تشيب، أو شحوب بدأ يكتسي العينين. لأنّها مدينة بلا مسارح ولا حدائق ولا بيوتٍ مفتوحة. مدينة بلا عصافير ولا أشجار، بلا نساء ولا أطفال. بلا حماقات جميلة، ولا قبلٍ مسروقة، ولا هروبٍ من ندوب المطر، تحت سماءٍ وهميّة. لأنّها مدينة النّعال التي تطرق الإسفلت بتلك الضّربات الرّتيبة التي لا تتغيّر. لأنّها مدينة بلا وجوه ولا أسئلة ولا حتّى قلب... أيّتها المدينة البلا قلب! قد هجرتك لأنّك المدينة الممكنة، وغيرك الحلمُ المستحيل. لأنّك مدينة بلا بشر، فيها الأطفال يكبرون بسرعة، ثمّ ينهارون ويصرخون: لمَ نعيش وحدنا في هذه المدينة يا أمّي؟
اليوم، حين مررت بك، تذكّرت. رأيت البيت القديم، والشّوارع المألوفة، والتّلة المهجورة، حيث مرقد أناسٍ كنّا نحبّهم. وما زلنا، لكن نسيناهم عندما هربنا منك. حين مررت بك اليوم، أغمضت عينيّ بشدّة. خشيت أن أهتدي ثانيةً إلى اسمك، أنا التي صرت بلا عنوان. خشيت أن أبصر ما يشبه الشّوق في لمساتك. أو لعلّي خشيت أن تطبق عليّ يداك، كمن يريد التخلّص من شاهدٍ مضى على هروبه أكثر من سنوات خمس.
أيّتها المدينة المحرومة منّي، والمستقيلة أنا منها، أذكر ساعة قطعت حبلنا السريّ قبل سنوات أنّني رمقتك بنظرة معاتبة. كنت قد نسيت فقط، حين أوليتك ظهري، أنّك جبلت ترابك بكلّ أوجاعي، وخيبات أملي، وأحلام طفولتي المسروقة. كنت قد نسيت أنّني، معك أو بدونك، سأبقى دوماً أفتّش عن نهرٍ غير موجود، وشخصٍ غير موجود، في مدينةٍ مستحيلة. |
أهي مدينة تسكُنكِ ...
أم انتِ تسكُنينها ياحواء؟
.
.
لايهم اذا تشابهت الملامح
والطرقات
والأسماء
فكلنا نصبح في لحظة من اللحظات
كالمدن المهجورة