من الأمور التي اكتسبتها، من دون أن أدرك، بمرور السّنوات الماضية هي سرعة التّنضيد باللغة العربيّة. ما زلت أذكر أيّام الأبحاث الجامعيّة، عندما كنت أخصّص أيّاماً كاملة كي أبحث عن الأحرف فوق لوحة المفاتيح ليس إلا. أمّا اليوم، فأكتشف فجأةً، لا بل يصطدمني الواقع فجأةً، كم أنا سريعةٌ في الطّباعة باللّغة العربيّة! أصبحت أرى أصابعي تتحرّك أمامي، كأنّها تعزف على البيانو، فتقفز من مفتاحٍ إلى آخر بكلّ انسيابٍ ومرحٍ واندفاع. في الواقع، عندما أشرع في الطّباعة، أكره أن أهمل ولو حرفاً واحداً، سواء أكان تنويناً أم شدّة أم همزة. فأعتبر أنّ الشدّة مثلاً حرفٌ كبقيّة الحروف، ومن الظّلم أن يتعرّض للإغفال. ومن هنا إصراري على عدم نسيانها. ولعلّ لإصراري هذا قصّة أخرى، يعود تاريخها إلى حوالى 17 سنة مضت:
كانت الحصّة حصّة إملاء، والنّص الذي تمليه علينا المعلّمة يحتوي على أربع شدّات. ما زلت أذكرها جيّداً، كما أذكر اسمي الخاصّ! والشّدة كما يعرف البعض غالية الثّمن، تكلّف من يغفل عنها عشر علاماتٍ من أصل مائة. ومن هنا، كانت كتابتها أمراً ضروريّاً، لا بل بديهيّاً. آنذاك، طرحت إحدى التّلميذات على المعلّمة سؤالاً غبيّاً: "آنسة، أمن الضّروريّ أن نكتب الشّدّات؟" كان السّؤال من الغباء، لدرجة أنّ المعلّمة ابتسمت وأجابت: "كلا ياسمين، ليس من الضّروريّ بتاتاً!". وهنا، وقعت الطّامة، وبات صراعٌ داخليّ يتحكّم بعقلي، تضمّن الأسئلة التّالية: لماذا تقول المدرّسة إنّه من غير الضّروريّ أن نكتب الشّدّات؟ أمن المعقول؟ ماذا أفعل؟ هل أحافظ عليها أم أمحوها؟ ليس من الممكن أن تكذب المدرّسة علينا. سأمحوها، نعم، سأفعل... وهكذا، محوت الشّدّات الأربع، الواحدة تلو الأخرى. محوتها بيدي هذه. واحدة واحدة. وطبعاً طارت أربعون علامة... بقيتُ مدّة بعد ذلك لا أفهم سرّ نفي المعلّمة. آخ، قلبي الصّغير أُصيب بصدمته الأولى حينذاك... فلا تسألوني بعد اليوم عن سرّ علاقتي مع الشّدّات! في الواقع، ما زلت أقصّ هذه الحادثة على صديقتي اليوم، وما زالت تنجح في انتزاع الضحكات منّا. كم هم ساذجون الأطفال!
بأيّة الحال، بالعودة إلى موضوع التّنضيد... من الأمور الأخرى التي تزعجني هو اضطراري، عند التّرجمة، إلى الانتقال المستمرّ بين العربيّة والأجنبيّة، وبالتّالي التّغيير المستمرّ لإشارة اللغة. كثيرٌ من الأحيان أنسى ذلك، فأفتح موقعاً إلكترونيّاً، وأجدني أطبع صصص. عوضاً عن www. أو أبدأ بالتّرجمة لأجد أنّ ما طبعته هو عبارة عن نصّ على الشّكل التّالي: gk juvt Hf]hW ;l hajrj Ygd;. يا للإحباط!
أجدني أيضاً أشكر في سرّي شخصاً، لم أكن أطيقه ولا يطيقني، لكن ساهم مساهمةً كبيرة في أن أصبح سريعة عند إنجاز عملي: سمر. مع سمر، عملت لمدّة في ترجمة الأفلام والمسلسلات، وكنّا على خلاف منذ اليوم الأوّل. لكن على الصّعيد المهنيّ، لطالما اعتبرتني هي عنصراً فعّالاً في فريق العمل، رغم محاولاتها التي لا تعدّ ولا تحصى لمضايقتي. صدّقوني، كانت تقطر سمّاً، ولؤماً، وكراهية (مع البنات فحسب طبعاً). المهمّ: كانت تسلّمني فيلماً معيّناً، وتقول لي مثلاً: أريده على مكتبي في الغد. فأقبل أنا التحدّي، على أساس: "يا أنا يا أنت!". في تلك الأيّام، باتت مفاصلي في حالةٍ يرثى لها، ولم أكن أملك حتّى وقتاً كي أريحها. فالثّواني نفسها كانت ثمينة. لكن كانت تكفيني نظرة الصّدمة في عينيّ سمر، اليومَ التّالي، كي أشفي غليلي! الغريب أنّني أتذكّرها اليوم، بشعورٍ من الامتنان. هه!
يكفي الكلام اليوم. اليوم خمر وغداً أمرُ. أقصد اليوم نوم وغداً عملُ. يلا. باي. |
نيالك (do you use that term in Lebanon to indicate envy?)
أنا أجد صعوبة بالغة عندما أحاول التعبير بالعربية. أما عن التنضيد، فأنا لا أجيده حتى بالإنجليزية، فلا أمل لي بالعربية
:(