ضائعة تماماً أنا. عشراتٌ من الأفكار تعتمل في ذهني. لا أسمع غير طنينها المدوّي داخل رأسي. بحلول هذه السّاعة، باتت الدّوامة في أوجها، تعوي كذئبةٍ ثكلى. أفكار ضمن أفكار تتداخل مع أفكار... والنّتيجة: اختلط الأمر، وانعقد اللسان، وأمست الكلمات تهمّ لتخرج متدافعةً، لكن تصطدم بحاجزٍ منيع، وتعود أدراجها خائبة. أظنّ أنّ ما أحاول قوله، بطريقةٍ من الطّرق، بشكلٍ من الأشكال، هو أنّ سيل الإلهام انحبس. وخيط الكتابة بُتر. والمداد في أحشاء أناملي قد نضب أخيراً. بمعنى أدقّ، لم أعد أعرف الكتابة.
وبمعنى أكثر دقة، لا يهمّني الأمر. كالعادة، "لا يهمّني الأمر".
لكنّ المشكلة أنّني إذا لم ألفظ هذه الأفكار الضّاجة من داخل رأسي سريعاً، لبتّ أشبه بحال المرأة التي تحمل في أحشائها جنيناً ميتاً: رحمها يستحيل مقبرةً والطّفل القادم أبداً لا يجيء. لا يبقى إلا الوعد بالطّفل القادم. لا يبقى إلا الحلم الكاذب... إلا الأمل لا يبقى.
الحقيقة... أتوق إلى الاتّحاد من جديد بتلك الحالة من سكون الغرق في عالم الكتابة الآخر. أشتاق إلى الوقوف من النّاحية الأخرى من المرآة... إلى تحطيم الأواني وتشويه الصّور وتحريف الأبجديّة. أشتاق إلى رؤية العالم من منظار هلوساتي. إلى الانتقام من الآخرين بكلماتي. لكنّ ضجيج العالم الخارجيّ أقوى منّي، وبتّ لا أقوى على سماع همساتي الدّاخليّة. حتّى هذه الكلمات التي تشقّ طريقها إلى الحياة في هذه اللّحظة، تخرج، بعد مخاضٍ عسير، شاحبةً، عرجاء، عقيمة، مشوّهة، مختلّة، مصابة بعيبٍ خلقيّ وإعاقاتٍ متنوّعة... ينتابها ألف مرض إلا لون نشوة الجنون عندما ترتمي النّفس، بكلّ اندفاعٍ، فوق الهاوية. حتّى هذه الكلمات لا تخدعني. تعلّل النّفس قليلاً، لكن لا تخدعني. أنا فعلاً خاصمت الكتابة. أو بالأحرى هي خاصمتني، بينما أقفُ وراء السّور كعاشقٍ ذليل، أطأطىء برأسي على بابها المسدود، بحثاً عن عبق زياراتها القديمة، أو التماساً لخمر متاهاتها.
كيف أسرّح شَعري بعد اليوم وأنا لا أرى فيه خيوطاً من اللّيل وبعض نجوم؟ كيف أنظر إلى البحر فلا أرى في مرجانه حبّات عقدي المنفرط، ولا ألمح في زوارقه رسائل أمنياتي المسافرة؟ كيف أفتح دفاتري، فلا أسوّدها بخربشاتي ولا أرسم عليها ألف زهرة؟ كيف أفيق من سباتي وحقائب أحلامي فارغة، إلا من مشطٍ مكسور وفرشاة أسنان بالية؟
ينتابني الهلع. في غمرة اليأس، أفكّر في أن أحرق كلّ أطفالي المشوّهين... أن أضرم فيهم النّار، وأهرع خلف السّتار لأختبىء من صخب آلامهم. ثمّ أخرج على العلن، لأرثيهم بقصيدةٍ فارغة. حينذاك، سيصفّق لي النّاس. سوف يواسونني. لا بل سيرأفون لحالي. لن ينتبهوا إلى أنّ الكتابة قد وسمتني. لن يشتمّوا رائحة الجريمة على ملابسي. على العكس، سيطبطبون على كتفي، ويشجّعونني على قتل المزيد من الأطفال. ثمّ ينصرفون، وأبقى أنا وحدي، أنا وعبء الحقيقة.
عندما ينام الجميع، أظلّ أتقلّب فوق مضجعي. شيءٌ ما يطبق خناقه على حنجرتي. أعرفه جيّداً. أتذكّر قبضته المألوفة. شيءٌ ما يعصرني عصراً. أردت أن أهزّ كتفيّ لامبالاةً وأخبره إنّ الأمر لا يهمّني، وأن يمضي في فعلته كما يشاء. لكنّ غصّةً تملّكتني رغماً عنّي. حينذاك، لم أملك إلا أن أدفن وجهي في وسادتي، في عتمة الكلمات، في ملاذ الصّمت. |
لن تتوقفي عن الكتابة يا إيف لأنك ولدت لتكتبي عن شيء ما و عن زمن ما، كل ما يجري الأن هو هاجس الحقيقة التي ستكون هاجسك الذي لن يدعك تتركين الكتابة ، وستبقى الضمائر تؤرق النفوس الى ان يحين وقت يصبح من السهل قول الحقيقة،
أكتبي يا إيف لأنه لا يوجد طريق اخر لقول الحقيقة،
ولأنه كما يقول المثل الشعبي : "الكلمة اللي ما بتقولها راح تموت بحسرتها"