ماذا أقول عن روسيا؟ إنّ كلّ شيءٍ كان جميلاً؟ رائعاً؟ باهراً؟ لا، فإنّ كلّ هذا تقصيرٌ في حقّها وحقّ كلّ ما شعرت به. روسيا انتشلتني منّي بكلّ بساطة، وفضفضت عنّي همومي، وألبستني ثوباً جديداً، ثمّ تركتني وأنا لمّا أشبع منها بعد.
بدأ الأمر قبل حوالى أيّام. يوم إقلاع الطّائرة في ساعات الصّباح الأولى، كان بعض القلق يساورني. فقد كنت قد ترجمت، قبل سنةٍ ونصف تقريباً، ثلاث حلقات عن فيلم وثائقيّ يتطرّق بالتّفصيل المملّ إلى الهفوات والأخطاء التي تُرتكب على المدرج، وفي برج المراقبة، وفي الجوّ، فتؤدّي غالباً إلى فناء عددٍ لا يحصى من الرّكاب سنويّاً. أذكر أنّني، حينذاك، بقيت أسابيعَ لا أذوق للنّوم طعماً، كما بقي طيف هذه الحلقات الثّلاث يلازمني منذ ذلك الحين. لا أخاف الطّيران بكلّ معنى الكلمة؛ فلحظات الإقلاع والهبوط من لحظاتي المفضّلة؛ تذكّرني بزمنٍ لم أشبع فيه من زيارة مدن الملاهي وركوب ألعابها. على الأقل، فلأقل إنّني لا أخشى ركوب الطّائرة مثل صديقتي التي جلست بجواري، ريما. ودعوني أخبركم أنّ ريما تعبّر عن انفعالاتها وتوتّرها بالقرص، وبكلّ قوّةٍ أيضاً. مهما حاولت أن أقول لها: "يا بنتي، يا حبيبتي، بلا القرص الله يخليكِ!"، فإنّ بال ريما لا ينشغل إلا بمحرّكٍ توقّف، وجناحٍ احترق، وطائرة على وشك السقوط. لكن عليّ أن أعترف أنّ سقوط الطّائرة القبرصيّة يوم عودتي قد جدّد مخاوفي ثانيةً (حرام سِتّي شو هسترت). وسقوط الطّائرة الكولومبيّة اليوم سدّد لي صفعةً أخرى. لكن هذه قصّةٌ أخرى...
كان النّوم في الطّائرة صعباً، بل يكاد يكون مستحيلاً. وهكذا بقينا مستيقظين حتّى اللّيلة التّالية. أي ما يزيد عن ستّ وثلاثين ساعة من غير نوم. لا تسألوني كيف يتأمّل المرء مدينةً استثنائيّة بجفنين نصف مغمضين. بعد الانتظار الطّويل (جدّاً) في مطار موسكو، استقبلتنا كاتيا بمندليها البنفسجي الذي علّقته على هوائيّ سيارةٍ قديم، ولسوف تواظب على التّلويح به طيلة الرّحلة. تردّد دائماً: "هيّا يا صيصاني (mes poussins et poussinettes)" ولا تتردّد بالكشف عن أنيابها كأمّ ذئبة إذا دعت الحاجة إلى الدّفاع عنّا. تألّف الفريق من أربعة عشر شخصاً، معظمهم من السيّدات الكبيرات في السنّ. رفقتهنّ ممتعة إلى أبعد حدّ، وأصواتهنّ ما تزال ترنّ في أذني بوضوح، حتّى وأنا أكتب هذه السّطور (طقطقولي خواصري من الضّحك!). أمّا نحن الاثنتان، فكانت المجموعة تطلق علينا اسم الأولاد: "يلا يا ولاد، وين راحوا الولاد، تعوا يا ولاد..." وهيك شي... كما التصقت بنا صفة "الرّوعة". والسّبب في ذلك أنّنا أينما توجّهنا، لا نتمالك أنفسنا من كثرة الجمال المحيط بنا، فنهتف: "واو... بيعقّد،" وبالأخصّ "رائع!" وهكذا، صار كلّ شيءٍ رائعاً، وصارت هذه الكلمة متداولةً بين الجميع: "شو رائعة هالصّدفة، هالنّطرة، هالبخعة، هالوقعة..." كل شي رائع! لفتني أيضاً أنّ أشخاصاً عديدين فتحوا لنا، أكثر من مرّة، قلوبهم، سواء من الرّوس أم من اللّبنانيّين. أكثر من مرّة، وجدتني أنصح أشخاصاً لوّعهم الحبّ. أنا؟ أنصح سيّدةً خمسينيّة عن الحبّ، وأصغي إلى اعترافاتٍ رجلٍ وحيد؟ أنا، بعلاقاتي الفاشلة فشلاً ذريعاً أستحيل حكيمةً في هذا المضمار؟ ربّما. فالحياديّة أحياناً تسبغ عليك صفة الحكمة.
أمّا الرّوس... يا عيني عالرّوس! صحيح أنّهم لا يفهمون غير الرّوسية، وأنّ التّفاهم معهم شبه مستحيل، إلا إذا استخدمتَ لغة الإشارات، والورقة والقلم أيضاً (لكن هناك لغة العيون أيضاً!) العثور على روسيّ يجيد الانكليزيّة أشبه بالبحث عن إبرةٍ في كومة قش. هذا من ناحية. أمّا من ناحيةٍ أخرى، الأمر مسلّ من حيث أنّك تستطيع أن تتكلّم عن الشّخص الواقف أمامك من دون أن يفهم كلمةً ممّا تقول. ومع أنّ بعضهم باردٌ وفظّ للوهلة الأولى، إلا أنّك تستطيع أن تكسر هذه البرودة إذا اكتشفت سرّ ابتساماتهم، ونظرات عيونهم (آه، من عينيّ ساشا الخجول!) أمّا الطّعام الرّوسي، فحدّث ولا حرج. يخيّل إليك أنّ رائحةً غريبة تفوح في طعامهم، في جوّهم، في كلّ ما يحيط بهم، حتّى تتغلغل في أنفسهم ونظراتهم. لعلّها عشبة. لعلّها شجرة. لكنّها الهواء الآخر الذي يتنشّقه الرّوس. ولهذا صعب عليّ أن أقترب من طعامهم. ماذا أكلت؟ البيتزا طوال الأسبوع. (عيني ما تشوف البيتزا بقى!). الكاتدرائيّات كثيرة كثيرة. وهي فخمة سواء من الدّاخل أم من الخارج. يبدو هذا العدد الضّخم غريباً بالنّسبة لشعبٍ عاش في ظلّ الشّيوعيّة طوال عقود. لكن بين دير نوفيديفيتشي وسيرغي بوساد، وكنائس (St Basil, Assumption, Annunciation, Christ the Savior, etc…)، تحار العين أين تجول. المتاحف مليئة باللوحات العالميّة والغرف المطلية بالذّهب من أولّها إلى آخرها... لدرجة أنّنا عندما بلغنا متحف بيترهوف في اليوم الأخير (بعد Ermitage, Trinity Sergij Lavra, Katherine the Great Palace, etc...)، كانت العين قد شبعت ذهباً. لكن هذا لا يهمّ، لأنّ بيترهوف جنّةٌ على الأرض، وهو مشهور بحدائقه ونوافيره أكثر من القصر نفسه. تجدر الإشارة إلى أنّ معظم القصور والمتاحف، بكلّ جمالها الخاطف للأنفاس، كانت قد دُمّرت تماماً في الحرب العالميّة الثّانية على يد الألمان. لكنّ هؤلاء ما لبثوا أن كفّروا عن ذنبهم وساهموا في إعادة ترميمها. وهكذا، في معرض استفتاءٍ جرى مؤخّراً، ظهر أنّ معظم الرّوس غير ناقمين على الألمان، بل يعتبرونهم كأيّ شعبٍ آخر. وإذا كنت قد أحببت موسكو، فقد أغرمت بسانت بيترسبورغ. في مطلق الأحوال، لطالما ربطتني حالة عشقٍ بالمدن التي تجري في أوردتها الأنهارُ. والنّييفا في هذه المدينة له سحرٌ خاصّ. عند الثّانية بعد منتصف الليل، تنشقّ الجسور كلّها لثلاث ساعاتٍ كي تتيح للسّفن كافةً المرور، في مشهد يكاد يكون عرساً ليليّاً. المرشد السياحيّ أندريه أكثر من رائع (ريما ستفهمني!)، وجوّ المدينة أشبه ببلدةٍ صغيرة. ستصادف عروساً وعريساً كلّ خمس دقائق. عند ذاك، عليك أن تهتف بكلّ قوّتك "غوركا! غوركا!" ومعناها: "مرّ!". بمعنى أنّك تتذمّر من مرارة الحياة، وتطلب شيئاً عذباً ليكسر هذا الطّعم. عند ذلك، تأتي قبلة العروسين لتضفي حلاوةً وتريح قلبك المرير. احترس فقط ألا يقبّلك أحدٌ عن طريق الخطأ، أو لا تحترس!
كنّا نسير النّهار بطوله (والنهار هناك يستمرّ حتّى العاشرة والنّصف ليلاً، إذا لم تصادفك الليالي البيضاء)، فينتابنا ذلك الشّعور بالألم، لكنّه الألم اللذيذ الذي لا تشبع منه لأنّه مجبولٌ بالمعرفة والاكتشافات والجمال.. الجمال الذي تسكر من جماله. انفصلت عن المجموعة، واستقلّيت الحافلة، وجلت في الشّوارع (لكن نصيحة، لا تتجوّلوا في شوارع موسكو ليلاً، خاصّة إذا صادف أنّكما فتاتان وحيدتان). اكتشفنا حياة القياصرة وشجرة عائلاتهم بأكملها، خاصّة كاترين الثّانية التي وجدت أنّ طموحها يحدّه زوجها الضّعيف، فتآمرت مع اثنين من عشّاقها على خنقه، وأصبحت حاكمة استثنائيّة (سمعتوا يا بنات، ما تخلّوا شي يوقف بطريقكم!) والمشكلة أنّ كلّ الأمكنة التي زرناها لا تكاد تبلغ النّصف ممّا كان يجب أن نزوره. فضيق الوقت لم يسمح حتّى بأن نمعن في التّأمّل والتّقدير. لذا، فزيارةٌ ثانية وثالثة لازمة لا بل ضروريّة.
ما زال الكلام طويلاً، والذّكريات أطول. رحلة القطار، والسّاحة الحمراء، وشارع نفسكي، والباليه الرّوسي، وأغنية كالينكا، والكثير الكثير من المواقف والصّور الممتعة... ما زال قلبي يعزف على نغم موسكو، ويشتاق إلى أرجاء سانت بيترسبورغ. أقسم أنّه، رغم اشتياقي لأهلي وأصدقائي، فإنّ غصّة خالجتني حين نمت على مخدّتي بعد عودتي؛ وشيءٌ منّي تركته في تلك الأرض الباردة لن أستعيده حتّى أعود إليها ثانيةً. عرفت الآن ما هو الشّعور الغريب الذي كتبت عنه آخر مرّة: الشّيء الذي أفعله للمرّة الأخيرة لكن لا أدري ما هو. إنّه القلق، والتّأثر بالمشاكل البسيطة، والاستسلام من أوّل زلّة، والغرق في الحضيض... لن يحدث ذلك ثانيةً، طالما أنّني أعرف أنّ مكاناً كهذا موجودٌ على ناحيةٍ أخرى من الكرة الأرضيّة.
تكلّمت كثيراً. لكن هذا سجلي للزّمن القادم. أترككم مع بعض الصّور الإضافية التي "يفترض" ألا أبدو فيها بوضوح. (يلا، هالمرة بس، كرمال خاطر الخلفيّة الروسيّة). دسفيدانيا! :-) ملاحظة: على سيرة الكلمات الرّوسية، من الكلمات التي تعلّمتها هي "سباسيبا" أي شكراً. يا ويلي شو شكرت ناس وعالم! مبسوطة بحالي وبهل الكلمة.
|
Welcome back!
I'm glad you had a good time, but we've missed you.
Great picuters...