السّاعة تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل. في طريق العودة، الجميع في الحافلة نائمٌ، أو يحاول استجداء طيف النّوم. أشعر بالبرد. برد شديد على أبواب آب. منذ بدأت الأمسية قبل ساعات، والبرد نفس ملاكٍ يلفحني حتّى أطراف الأنامل، والنّدى هو دمعُهُ وقد فاض على الباحة بأسرها.
لا أستطيع أن أنام. النّوم بطاقةُ سفر النّهار نحو العالم الآخر.. غلبةُ النّعاس على النّفس المشتاقة، المتلذّذة باشتياقها.. انتصارُ الموت المؤقّت، وسكونٌ مملّ. النّوم انفصالٌ عن الذات، وإبحار في عوالم غريبة.. يقظةٌ للرغبات المكبوتة والوجوه التي دفنّاها قسراً.. رصاصة رحمةٍ في قلبٍ يريد استئناف الحياة، رغم أنف الزّمن، والدقائق المنصرمة بعناد. النّوم قبضة سوداء تحكم على أعناقنا في حلكة الظّلام؛ فنستيقظ دوماً مرتاعين ليلاً وفي الحناجر ذلك الإحساس الرّهيب بالخواء. النّوم حكاية من زمن ألف ليلة وليلة، أمثّل فيها دائماً دور الأميرة المسجونة في برجٍ أو على جزيرة؛ أو الفتاة المستحيلة تمثالاً دامعاً؛ أو البجعة التي حُكم عليها بالطّيران سبع سنواتٍ، بلا هوادة، قبل أن تعود يوماً إلى أرض الحنين. النّوم يخضعني عند قدميه؛ يطرحني أرضاً كطيرٍ جريح، ثمّ يمارس عليّ كلّ شذوذ دائه الأسود... النّوم يؤلمني.
لا أعرف هل سحبني في دوّامة هذيانه، أم أنّني ما زلت جزءاً من هذا المشهد الصّامت حولي. من بعيد، أرى شخصاً يتقدّم نحوي بخطى ثابتة. صوته يخرق كلّ شيء. في البدء افترّ ثغره عن ابتسامة، ثمّ استغرق في الضّحك. ضحك كثيراً حتّى انقلبت شفته، وأمسك صدره، وراح يفحص برجليه. التفتُّ حولي: لا شيء، الوجوهُ الهامدة هي هي. أحلم أنا إذاً. لكنّ الرّجل الضّاحك يدنو ويدنو. عن قربٍ، ألاحظ أسنانه وقد خالطها لونٌ أسود مصفرّ؛ أسمعه يشهق في هزءٍ ويكشف عن أسنانه أكثر. الرّجل الضّاحك يمسكني بقوّة، يهزّني كما ليؤكّد لي أنّني صاحيةٌ فعلاً؛ وما إن تقترب أنفاسه الكريهة من وجهي، حتّى يشير نحو نافذة الحافلة إلى يساري.
أرى الطّريق تسبقني. كلّ ما حولي يسبقني. أراني أنظر إلى نهر الحياة يتدفّق من وراء النّافذة: من نفير أبواقٍ وصراخ مارّة إلى حفيف أقدامٍ وجلبة زحامٍ وهرجٍ ومرج. في الدّاخل، الرّجل الغامض اختفى، والجميع ما زال غارقاً في سباته. أصرخ أن استيقظوا. أجوب الرّواق جيئةً وذهاباً. أهزّ الركّاب النّائمين. حتّى السّائق نفسه كان نائماً. أخيراً، أرتمي على الأرض ويستحيل صوتي تهدّجاً يائساً: لماذا لا تستيقظوا... لماذا؟ في الخلفيّة، صوت الرّجل الضّاحك نفسه. إلا أنّه لم يكن يضحك هذه المرّة. كان يهمس فقط. يهمس في أذني ويقول: مهما آلمتك، مهما زرعت الجسد رضوضاً، ولوّنت بالنّدوب تقاسيم القلب، ملاذكِ حضني، مآلكِ إليّ...
أستيقظ مجفلة. ما زلت في المكان نفسه. في المقعد الأخير من الحافلة الأخيرة، من هزيع الليل الأخير. إلى جانبي، صديقتي تستيقظ هي الأخرى. - أمضينا وقتاً ممتعاً الليلة. لا؟ كاظم السّاهر كان أكثر من رائع. يجعل المرء يحبّ الحبّ. - نعم. كان باهراً جدّاً. صوته يحملك إلى فضاءٍ بعيد، وأشخاصٍ مضوا إلا من خيالك. بهرني...
صمتُّ قليلاً، قبل أن أضيف: بهرني... ربّما أكثر من اللزوم. |
سلام
وردة أخري في هذه المزهرية الجميلة
ارى الجمل تنصاع لك والكلمات تسجد احتراما أمام قلمك
أما نحن فنتمتع ونتمتع ونتمتع
احببت كثيرا النهاية أو كما تسمى في لغة الصحافة القفلة