يحسبون أنّها تقترف جريمة الرّقص على عتبات الهاوية، وأنّ صروح الذّاكرة منغمسة حتّى الجذور في جمرات الأمس... وهي، منذ زمنٍ، من هذه الأوهام مستقيلة.
مستقيلة من مرقد أرجوحتها فوق الشّرفات المسائيّة... ونسج خيوط الانتظار بإبرةٍ تقتات، في كلّ وخزة، من دماء لحمها القانية. مستقيلة من الحزن. من خربشة الأظافر على حيطان النّسيان. من عضّة الوجع الأخيرة التي تأبى إلا أن تنبش ملاذها، وتنهش في جسدها المتكوّر، لتردّها كرهاً نحو موطنها الأوّل. مستقيلة من وظيفة ذلك العامل الذي يوزّع الرّسائل، لكنّ أحداً لا يدري له اسماً، ويوزّع الابتسامات، لكنّ أحداً لا يعرف لوجهه شكلاً.
أولم يبصروا الكرسيّ الفارغ بعد؟
منذ زمنٍ، هي مستقيلة. صعبٌ على المرء أن يتفيّأ ظلّ شجرةٍ عارية، ذات خريف. صعبٌ على الشّمس أن تتريّث فترة الغروب. لم تعد تحسب الأيّام. كانت تخاف من ذلك في البداية. لكن بمرور الوقت، ابتلع النّسيان الأمرَ برمّته. اكتشفت أنّها يمكن أن تمارس الغياب دون امتزاج المطر بالجسد المرتعش، كما تمارس أيّ فعلٍ آخر: فعل النّوم- النّوم وحيدة، والنّوم بعينٍ قريرة، والنّوم بملء الجفون، والنّوم في حضنٍ آخر، وعلى هدهدة أنغامٍ أكثر رقّة- وفعل اليقظة- اليقظة اليتيمة، ويقظة الدّلال بعد نومة الضّحى، واليقظة فوق ملاءاتٍ حمراء، واليقظة العديمة الأحلام... كلّها أفعالٌ تمارسها بمنتهى البساطة، بمنتهى اللامبالاة، بكسل المستقيل في أوّل يومٍ بعد استقالته.
يومها، فتحت الباب على مصراعيه، ورمت أوراقها في وجوههم. لم يصدّقها أحدٌ في بادىء الأمر. اضطرت إلى تمزيق وثيقة عقدها، ورقعة القماش التي تفصح عن الهويّة فوق صدرها؛ حتّى جواز سفرها مزّقته أمامهم. كلّ ما يمثّلها فتّتته تفتيتا. لأوّل وهلة، خشيت ألا تتعرّف هي نفسهاإلى اسمها، وأن تنسجن في ذلك الشّكل الواحد المحدّد مسبقاً. ثمّ لملمت حاجيّاتها في صندوقٍ كرتونيّ، وقبل أن تترك المكتب الخالي، أفرغت في سلّة المهملات فضلات الكلام وعيدان الكبريت المنطفئة.
تحت قدم الكرسيّ، قبل المغادرة نهائيّاً، تذكر أنّها لمحت ورقةً مرميّة تسند المقعد المهترىء. تذكر أنّها فضّتها بتأنّ. شخصٌ ما كان قد خطّ فوقها هذه الكلمات: "في اللحظة الأخيرة دائماً، ندرك أنّنا لم نقل الكلمة التي كنّا نريد أن نقولها. يغيب الآخر ومعه تغيب لحظته، وفينا تغور الكلمة التي كانت على رأس اللّسان، مؤجَّلة، مطمئنّة إلى جريان الوقت من حولها، ظانّة أنّها ممسكة بزمامه. لو تغفل العين لحظةً واحدة. مرّة واحدة هي الأعنف والأجمل. نستسلم للحلم ونعود، كما كنّا دائماً، أنهاراً جوفيّة تعبر الأرض."***
تذكر أنّها هزّت كتفيها لامبالاةً حينذاك، وقالت كلمتها الأخيرة رغم كلّ شيء: "أنا مستقيلة!".
(...) كان قد مضى على وجودها أمامي دقائق طويلة، لم ألتفت إليها خلال ذلك ولو للحظة واحدة. عندما انتبهتُ إلى أنّ سيل الكلمات قد توقّف أخيراً، قمت عن أوراقي، ورمقتها بقسوةٍ من فوق نظّاراتي قائلة: "ما المطلوب منّا الآن؟"
من أعماق حنجرةٍ قبضت عليها يدٌ خفيّة، كاليد التي تهاجمنا في الأحلام، ونمضي العمر هاربين من طيفها، هتف أنينٌ متهدّج: - لماذا... لماذا تمعنون في طردي إذاً، وأنا منكم مستقيلة؟
تأفّفتُ ثانيةً، ومن دون تفكيرٍ قلت: - ضعي ملفّك على الرّف رقم 45 هناك، وسوف ننظر في طلبك!
---- *** المقتطف من "رسالة إلى الأختين"، عيسى مخلوف، ص. 133.
|
D'abord il manque un tiré (-) pour fermé tous ce qui suit le fait du reviel ;)
"...-واليقظة العديمة الأحلام"
Ensuit, Si je peux repondre au titre... je dirais : On fait rien, le noir est déjà ettiend et le silence ne parle plus depuis... toujours.
Normal alors qu'on s'en fout d'elle.
Tout est Noir, tout se tait... à toujours.