لا أعرف أن أحبَّ الشّتاء. لا أعرف أن أكتم غصّة حين يلوّح تشرين ببوادر تجهّمه الأولى. تزفر الرّيح أنفاسها اليانعة بين فتحات ردائي، فأهرع للاختباء تحت أغطيةٍ وهميّة. تستبدّ بي موجةٌ غير مفهومة من القشعريرة. أنتفض كما لم أفعل من قبل. تستيقظ فيّ غريزة مدمنٍ انتشلوه من درب الهذيان. وعبثاً أبحث عن كساء، أيّ كساء، أستر به كدمات البرد فوق جلدي.
لا. لا أعرف أن أحبّ الشّتاء. فالبرد قرصةٌ لاذعة؛ سكّينٌ تشقّ في شفتي خريطةً مشوّهة لقبلاتٍ دامية، حيث الأسنان تنغرز في ما تبقّى من الشّفة العارية؛ حيث الأنفاس مبتورة، والألوان مخطوفة، والأبخرة الدّخانيّة المتصاعدة مجرّد لهاث حيوانيّ يبحث عن مرقدٍ، يطفىء فيه عقب جنونه.
لا أعرف أن أمشي وحيدةً تحت المطر. فأنا بدائيّةٌ في تعاملي مع الأنهار المنسابة من أكفّ إلهيّة، وقلبي أرفعُهُ مظلّةً كسيرةً متداعية، ما تلبث أن تنتهي تحت الأقدام، أو في سلّةٍ منسيّة للمهملات. لا أعرف أن أهرب من حيث يهطل المطر. فأنا همجيّة في عدوي وهروبي، أسحق خمسين ألف حشرة وأدفن بحراً من الأزهار الميتة بين أصابعي. والرّقص فوق الأرض الموحلة، لا، لا أعرفه. أتعثّر. تزلّ قدمي. أتساقط على دويّ موسيقى معطّلة. وأمكث الليل بطوله أحكي مع المطر، ولكنّ المطر لا يسمعني.
في الشّتاء، أكفّ أنا عن كوني أنا. أستحيل مخلوقةً أخرى، هاربةً من بلاد الثّلوج والصّقيع، حيث العمر ينكفىء داخل دمعةٍ متحجّرة. أستحيل ورقةً يابسة تطيّرها عاصفةٌ بلا كفن، وأنفاسٌ بلا وطن، وشجنٌ مصهورٌ برائحة الصّنوبر بعد المغيب. في الشّتاء، أحرق كلّ ليلةٍ حفنةً من القصائد، علّ الجمرات القديمة تحت الرّماد تهبّ لتعانق السّماء. في الشّتاء، أراقب الحياة من وراء نافذةٍ تتكسّر فوقها الأمطار، وأفكّر في اليمامة اليتيمة التي تسكن ميزاب بيتنا، تحت حوض أزهار الجيرانيوم. في الشّتاء، أحطّم ميزان الحرارة. وأعبّ الزّئبق المنساب منه حتّى القطرة الأخيرة. ترتعد فرائصي. تصطك أسناني. تتساقط كلّ أسلحتي. أمسي ضعيفة جدّاً. في الشّتاء، في هذا الشّتاء بالذّات، لم يعد بإمكاني الادّعاء. لم يعد بإمكاني إلا الانزواء كطفلٍ متكوّر... إلا الهرع نحو حضن أمّي والبكاء: "أمّاه... غطّيني، فكم أشعر بالبرد هذا الشّتاء..." |
بعد ما ادى وبعد ما خد
بعد ما هد وبنى واحتد
شد لحاف الشتا من البرد
بعد ما لف وبعد ما دار
بعد ما هدى وبعد ما ثار
بعد ما داب واشتاق واحتار
حط الدبلة وحط الساعة
حط سجايرة والولاعة
علق حلمة على الشماعة
شد لحاف الشتا على جسمة
دحرج حلمة و همة واسمة
دارى عيون عايزين يبتسمو
الي قضى العمر هزار
والي قضى العمر بجد
شد لحاف الشتا من البرد
شتـــــــــا
محمد منير