أكثر الأشخاص الذين مرّوا في حياتي منذ العام 1989 وحتّى اليوم تركوا لي بضع كلماتٍ في كتاب. كانت تلك الموضة الرّائجة آنذاك: أن تنتهي السّنة الدّراسية، ويحضر كلّ تلميذ معه دفتراً صغيراً، ثمّ يجول على كلّ أساتذته ورفاقه طالباً منهم ذكرى مكتوبة. كتابي، اليوم، يضمّ كلماتٍ من صغارٍ في التّاسعة من عمرهم، إلى مراهقين ومراهقات يخالون أنّهم يحملون هموم الدّنيا على أكتافهم، إلى جامعيّات ذوات اهتماماتٍ مختلفة وحماسٍ متّقد، فكهولٍ يشهدون كلّ سنة على مرور أسرابٍ مندفعة من الطّيور المهاجرة. جميعهم كتبوا. وأنا لا أملك حين أقرأ إلا أن أبتسم، وأتساءل ماذا حلّ بهم اليوم.
كتابي أوّلاً هو أحد تلك الكتب "البنّاتية" الذي سحرني منذ وقع نظري عليه: لونه ورديّ، ومزوّد بمفتاحٍ وقفل، رُسم عليه قلبٌ ووردتان زهريّان، ونُقشت فوقه العبارة الرّائجة نفسها "أفكّر فيك". أذكر أنّ ثمنه بلغ خمسة آلاف ليرة في تلك الأيّام، وأنّني قد اضطررت لذرف بعض الدّموع كي أحصل عليه. أفتح الصّفحة الأولى، فأقرأ افتتاحيّتي التي أذكر أنّ والدي قرأها، وعلّق: "برافو، برافو!" لا أعرف لماذا، فأنا لم أعتقد أنّها تستدعي هذا القدر من الثّناء. الكتاب مجرّد ورقة والقلم مجرّد خطوط... ولكنّ الأهم هو ما تكتبونه... وأهمّ من ذلك هو معنى ما تكتبونه. فأرجوكم، أكتبوا وعبّروا عمّا تشاؤون. (ولكن لا تمزّقوا الصّفحات!) وفي الختام سلام (إلخ...)
في الصّفحات التّالية، أقرأ كلمات من والديّ. كلاهما ركّز على مشاعر الأبوّة والأمومة التي قالا إنّني لا أفهمها بعد. لا أعرف إن كانت صدفة، ولكن من الممكن أن يكون والدي قد "زعبر" واقتبس عن أمّي، خاصّةً وأنّه قد طلب أن يرى ماذا كتبت لي. كتبت هي: "قد لا تعلمين مقدار محبّتي لك ولأخواتك. ولكن أنتنّ الثلاث كلّ حياتي وأجمل شيء فيها (...)" كتب هو: لا تدركين مدى محبّة الأب لابنته، فأنت لم تعيشي تلك الحالة. إنّها شعورٌ يعجز الإنسان عن تبيانه، إنّها أشواقه (...)" كان خطّه جميلاً. وأنا اقتبست عنه بدوري طريقة كتابته لحرف النّون: كالطّير المحلّق في الأفق. فشكل النّون الأصليّ لا يعجبني: كحفرةٍ عميقة، من يقع فيها لا يملك إلا النّظر إلى نقطةٍ بعيدة سوداء.
أشخاص كثر كتبوا لي العبارات المضحكة نفسها: "أتمنّى لك النّجاح، وأكل التّفاح، وعريس فلاح!"، فهاكم مايا مثلاً: "إذا مشيت بين الزّهور، وسمعت تغريد الطّيور، تذكّري مايا كاتبة هذه السّطور. أحببت بين السّهول: سهل البقاع. أحببت بين المدن: مدينة بيروت. أحببت بين الرّفاق: رفيقتي (حوّاء). أتمنّى لك النّجاح، وأكل التّفاح، وعريس فلاح، وشقة من غير إيجار ودزينة عيال صغار".
إذا اعتبرتم أنّ الكلام السّابق "بايخ"، فأنتم لم تقرأوا "قمّة البياخة" بعد: "أتمنى لك النّجاح والشّفى العاجل. أتمنى لك الزواج برجل جغرافي وتاريخي. أتمنى لك الفوز وأكل الموز. أتمنّى لك النّجاح وأكل التّفاح وعريس فلاح. أتمنى لك أكل التّوت وعريس من بيروت. أتمنى لك السّعادة والهناء مع الزّوج القادم. أتمنى لك العنكبوت والكبوت والحوت. أتمنى لك الحمار والحصان والإمار. أتمنى لك الزواج والمواج والزجاج. أتمنى لك يا أسعد رفيقة من دراح (؟)". يبدو أنّ ياسمين كانت تتمنّى لي الزّواج من كلّ قلبها! بالإضافة إلى تمنّي الزّجاج، والحمار، والحوت طبعاً! لا أعرف إلى أيّ مدى خابت آمالها بهذا الخصوص.
أفتح الصّفحات حيث يفترض أنّني كبرت قليلاً. الكلمات توحي كم كنت خجولة أيّام المدرسة. أتوقّف عند ما كتبته مدرّسة الفلسفة: "أقرأ في وجهك ذلك التّرواح ما بين الرّخاء والضّيق... شتاءٌ وباردٌ وصيفٌ حارّ... لكن لا تلبث أن تصيبكِ رعشة ما إن تميل الشّمس للمغيب... ثمّ ضبابٌ رطب يتمايل خلف ملامحك الطّفلة.. وكأن لا سبيل للحياة من دون الخريف... وتؤجّلين الرّبيع.. إلى حين.. جميلٌ أن تمرّي من أمامنا... ضحكة مكتومة... ثمّ برهة ارتباك قصيرة... ثمّ.. كلامٌ لا يُسمع من المرّة الأولى.. لكن.. كم يخترقنا!!" (أوكيه، لكن للإشارة: لم أكن خجولة إلى هذه الدّرجة!)
ثمّ أقرأ كلمات النّاظر هشام: "إن كان من إله، فقد كانت الدّنيا له فكرة... وأراك فكرة ذلك الإله... فاخرجي إلى الملأ واجمعي الرّحيق، فقد آن الأوان..." (شو حلو!)
ومعلّمة مادّة الفنّ، سلام: "أتمنّى لك النّجاح والتّوفيق مدى العمر وأعتقد أنّك ستصبحين يوماً من الأيّام فنّانة" (إنشالله! شي يوم من هالإيّام!)
أستاذ الأدب العربيّ، صلاح، الذي كنت ألمس فيه محبّةً أبويّة، وكنت شخصيّاً أجنّ عليه، ودروسه ممتعة إلى أقصى حدّ: "أمامك الحياة، وفي عينيك بشائر الرّبيع. فتنشّقي عبير الورد وتمايلي مع النّسائم مفعمة بالأمل."
من الأصدقاء، كتب جوليان وزياد على التّوالي:
A la fin de l'année 97-98, je me dois d'exprimer tous mes sentiments sincères envers une fille qui, malgré son silence mystique et ensorcelant, a émerveillé plus d'un. En attendant de te vois exaucer tes vœux les plus chères, je te dis au revoir.
If I traveled around the universe 100000000 times, I will never find a person whose kindness and friendship and politeness that equals yours. (أُعذروا قفْزَ الرّقم من مكانه)
أيّام الجامعة، جال الكتاب على البنات في إحدى السّاعات المملة. فكانت النّتيجة (مع عبير وماغي خاصّة): "يا ريت قّطعتيلي إكتبلك بغير وقت ساعة هيدي الدّابة المطفيّة لأنّه غابب ع قلبي ومحبطة!!! (...)"
Que les roses pavent les chemins de ta vie! Un jour, quand tu te rappelleras ta jeunesse, c'est nous qui défilerons dans tes pensées.
المدير (اللي انشالله رح يفقعني بهدلة لمّا يشوفني، بما أنّني طنّشت على تكملة الرسالة) كتب لي: "إلى العزيزة العزيزة إيف... أن أقترب منها قلباً، على هذه الصّفحة، كسائر القلوب الصّغيرة الكبيرة! أمنية علّها تتحقّق! محبّتي ومحبّتي. (يحبّ التّكرار في الصّياغة، مثلاً: يدنو ويدنو، رويداً رويداً...).
حسنٌ، استراحة! عودة إلى الحاضر الآن. لا أعرف ماذا يحصل، ولكنّ هذه الأغنية تطاردني اليوم أينما ذهبت. أشدّد على المقطع حين تصرخ "هي" في "هو": "مين مفكّر حالك يعني؟" و"ولك حلّ عنّي ولو!" أيوة، يا هيك النّسوان، يا بلا! ;-)
|
:D