منذ أن عدت إلى مقاعد الجامعة في الأسبوع الماضي، في إطار تدريبٍ على "المعاهدات ونصّ الأمم المتّحدة"، وأنا أعقد العزم على الغوص في الكتب من جديد، فتتمّة الرّسالة التي دفعني ضيق الوقت والكسل إلى إهمالها في السّابق. ينبغي أن أشير في البدء إلى أنّ الأمر لا علاقة له البتّة بالأجواء القانونيّة التي أُغرقتُ فيها ذلك الأسبوع. فما من شيءٍ يلقي على أكتافي بعبء جبالٍ من الملل، كما كانت تفعله ساعات دروس القانون والتّرجمات القانونيّة خلال سنوات الدّراسة. في الواقع، لم أكن أحتمل هذا الإكراه على الالتصاق بالنّص المصدر حدّ التّرجمة الحرفيّة، ولا تقبّلتُ إلا على مضض ضرورة اتّباع المصطلحات القانونيّة المتداولة، حتّى ولو كان المشرّع قد أخطأ في استعمالها أو أوغل في الرّكاكة. بل على العكس، ما دفعني إلى اتّخاذ هذا القرار، وعن سابق اشتياقٍ وحبّ إن جاز القول، هو توقي إلى التّرجمة الشّعرية- موضوع الرّسالة- التي تفتقر إليها سوق العمل من جهة، ومواجهتي للمشرف على رسالتي الذي لطالما كان يتوقّع منّي أن أكون أوّل من يتمّها، من جهةٍ أخرى. وهكذا، أعلن اليوم أنّ بي رغبةً حقيقيّة إلى الفروغ منها، ومن كلّ ما يرافقها من وخز ضمير، وإلا حملت معي هذا العبء حتّى يغزو الشّيب رأسي، وتسقط أسناني جمعاء، وأمسي حيزبوناً على فراش الموت، وأنا ما أزال أردّد: "الرّسالة، الرّسالة!". هذا عدا عن الغرامة المفروضة عن كلّ سنةٍ من التّأخير، والبالغة حسب علمي خمسمائة دولار عدّاً ونقداً! (مع أنّني أذكر يوماً قلت فيه: أدفع مال الدّنيا مقابل أن أفرغ منها!).
عندما وقعت على عنوان هذا الكتاب، ومضت عيناي لذّةً. وما كان من مشرفي العزيز إلا أن أهداني إيّاه بلا تردّد، وعلى وجهه ابتسامةٌ من الخجل والفرح بالمولود الجديد. أوّل مرّةٍ أقرأ الخجل على وجهه. وفي خضمّ ساعتين، كنت قد أتيت على آخره، بجوّ لا يخلو من الاستمتاع البالغ (لا تسألوني عمّا كان يتحدّث أستاذ القانون المملّ ساعتذاك، فاهتمامي كان منصبّاً على مكانٍ آخر). كنت أقرأ كلمات المشرف في كلّ سطرٍ، وأسمع صدى النّظريات التّرجمية التي أورثني إيّاها. وقبل ذلك، لم أفطن قط إلى أنّني تأثّرت بهذه المدرسة بهذا القدر، ولا أنّني أتوق إلى النّهل من هذا "العلم-الفنّ" إلى ما لا نهاية.
يتكلّم فيه، على غرار نبيّ جبران، عن الكتابة بالنّبض والدّم، والكتابة بالدّموع، والكتابة بالسّكين، والكتابة بالمراهم والعقاقير، والكتابة بالصّعتر والزّيت، والكتابة بالنّفط، والكتابة بالتّصدير والاستيراد، والكتابة بالجنس، والكتابة بالقلم... أمّا عن الشّعر فيقول: "وانتظر النّاس أن يحدّد الرّاوي الشّعر، وحصروا الانتباه ليسجّلوا وصفةً جديدة، إلا أنّ الرّاوي سكت، ومنذ هذا اللقاء لم يعد إلى مقعده وإلى رواياته. ويروي الأطفال الذين نصبوا الأراجيح أنّه شاركهم في ألعابهم، كذلك ينقل المشردّون والمظلومون أنّه استمع إليهم وابتسم لهم، وروت مجموعةٌ من الصّبايا كنّ يتبرّجن ويضحكن أنّه مسح بالكحل عيونهنّ..."
وعن المترجم، يقول: "والمترجم، على ما عرفه في بعض الحقبات من تكريمٍ كأن ينال وزن المخطوط الذي ترجمه ذهباً، تصرّف المجتمع حياله بمزيجٍ غريب ينمّ عن حاجةٍ ماسّة إليه، وعن حذرٍ منه وازدراء له في الوقت نفسه، فعاش أبداً في حالةٍ مزدوجة يشعر بها وتعذّبه، وقد تنغّص لياليه، تقوم على الإثبات والنّفي معاً فعلى سبيل المثال هو كاتب وليس بالكاتب هو، وهو عالم وليس بالعالم هو، وهو شاعر وليس بالشّاعر هو. إن هو تجرّأ وأبدع فالمشنقة بانتظاره، وإن هو اكتفى بكفافه فالسّجن المؤبّد موعده. والأدهى أنّ عباقرة السياسة وقادة الكون إن هم وقعوا في حبال صدقهم وصرّحوا- ولو مرّة- بعمق مكنوناتهم فأحدثوا نقمةً واستنكاراً، سرعان ما ترى أصابعهم تشير إلى أخطاء المترجم وذنوبه وكبائره يكفّرون بها عن صدق اقترفوه فيأمرون بجلده في السّاحة، ولولا الحاجة إلى المترجم في المرّة القادمة للاحتماء به لأمروا برجمه حتّى آخر كلمةٍ تسقط منه!"
أظنّ هذا يكفي كمدخلٍ إلى الموضوع، وإلا جازفت بنقل الكتاب بأكمله!
ودّعت المشرف على أمل اللّقاء القريب، وأنا أضحك لتحذيره إيّاي من الخطل* والهراء**، ولنصائحه الأخيرة: "تذكّري، إذا كانت شمعةٌ واحدة تنير النّص، فلا تركّبي له بروجكتوراً (كشّاف نور/مسلاط)"! أتوارى على نغمة بيتي شعر لسعيد عقل، وقعت عليهما بينما أقلّب في أوراقي القديمة:
"تلتوي خصراً فأومي إلى نغمة النّاي ألا انتحبي أنا في ظلّك يا حبّها أحسب الأنجم في لعبي"
--------------------------------------------- * الخطل: هو خطأ في التّرجمة يرتكبه المترجم عندما ينسب إلى مفردة أو عبارة من النّص المصدر دلالة محتملة خاطئة تشوّه النّص من غير أن تفضي بالضّرورة إلى مخالفة. ("الخطل من السّهام ما لا يقصد قصد الهدف") (faux sens/incorrect meaning).
** الهراء: هو خطأ في التّرجمة يرتكبه المترجم عندما ينسب إلى جزء من النّص المصدر معنىً خاطئاً يؤدّي إلى إقحام صياغة منافية للمنطق في النّص الهدف (non-sens/nonsense). |
Eh, happy thoughts:
يغزو الشّيب رأسي، وتسقط أسناني جمعاء، وأمسي حيزبوناً على فراش الموت،