كنت أصغي إليه يسرد عليّ تفاصيل حياته. أخبرني عن طبعه، وصفاته، وتصرّفاته. لوهلةٍ، خيّل إليّ أنّ حياته برمّتها قائمةٌ على مجموعة من الأفعال وردود الفعل، بحيث ينتفض الفكر التّقنيّ العمليّ ليطيح بكلّ ما تبقى من رومانسية وغموض. لكأنّه أراد أن يقول لي: هكذا أنا، اقبليني على هذا النّحو، بوضوح، بصراحة، بعقلانيّة. أخبرك عن كلّ شيء، فإن أعجبك العرض أهلاً وسهلاً، وإلا...
يتكلّم ويتكلّم. لا يسألني عن نفسي. عمّا أحبّ وما أكره. عن لوني المفضّل، والأغنية التي ترتحل بي إلى بلادٍ أخرى. لا يسأل عن الكتاب الذي أبكاني، ولا عن سرّ نظرتي التي تفد أوراقاً ربيعيّة مع رياح الشّمال. لا ينتزع الضّحكات من قلبي. لا يهتف سائلاً: من أنت؟! بين الفينة والأخرى، يغيب عنّي صوته، فأشرد إلى مكانٍ آخر. من خلف زجاج المقهى، أتأمّل بعض العابرين على أحد أرصفة وسط بيروت، يتضاحكون، فيما ريح المساء المجنونة تتلاعب بشعرهم وثيابهم ومظلاتهم، قل إنّهم دمى ورقيّة في يد طفل مشاغب. ليتني كنت برفقتهم. ليت ريح المساء تنتشلني من مكاني، لتنفثني نحو آفاقٍ أخرى. ليت هذا الهواء العاصف يعيرني بعض جنونه، لأخرج فجأةً، وأفتح ذراعيّ للمطر، والسّماء، والحريّة.
- أصحاب الشّركة محظوظون بوجودي بينهم. فأنا من يدير عجلة أعمالهم...
- هه؟ نعم، نعم، بالطّبع...
يعود الصّوت مجدّداً. حين دعاني للخروج، لم أعترض. لكنّني لم أتحمّس أيضاً. لم أقف أمام المرآة لساعاتٍ، أو أُخرج كلّ ما حفلت به خزانتي من ثياب. لم يهمّني أن أكون جميلة من أجله. فتحت الباب، ومضيت. فقط. فإنّني قد فتحتُ أبواباً كثيرة في حياتي، منذ أن صُفّق في وجهي ذاك الباب. لعلّي أردت أن أدفن دويّه الذي مزّق أذنيّ، لمّا صفقوه على حين غرّة، دونما إنذار. لكنّني في كلّ مرّة، كنت أقع وراء الأبواب الجديدة على حجراتٍ فارغة؛ ومهما حاولت إقناع نفسي بمناداة أهل المكان، كانت الحجرات دائماً تبقى فارغة.
ماذا أفعل هنا؟ أريد أن أعود إلى البيت. صحيحٌ أنّ بيتي مرتعٌ خصب لذكرياتٍ عن أخيلةٍ أخرى، لكن عليّ أغادر هذا المكان بأيّ ثمن. أغادره أوّلاً، ثمّ أحسب حساب الأخيلة الأخرى. من يدري، لعلّ أشباحها قد نسيتني منذ زمنٍ، ومضت تسكن دوراً مغايرة. وسط بيروت غارقٌ تحت حبالٍ من المطر. مظلّتي المسكينة أعلنت استسلامها منذ وقتٍ طويل. لكن يبدو أنّ زحمة المكان لا تميّز بين قيظٍ أو قرّ، بل تبقى تزرع الأرصفة بوجوه من كلّ أمةٍ ولسان، جاءت لتحتفل بمهرجانٍ آخر للبشريّة. يلفحني هواءٌ بارد، فأحكم إقفال سترتي عليّ. بعد قليلٍ، أرفع رأسي نحو السّماء، فألمح بالكاد طيف القمر الشّاحب من بعيد. وإذ بي أتمتم رغماً عنّي: "رافقتك السّلامة أيّتها الأخيلة!" يسألني الصّوت عينه: - عذراً، هل قلتِ شيئاً؟ فأهزّ برأسي نفياً: - لا، لا شيء. لا شيء البتّة.
|
سلام
لا أعرف لماذا انتابني احساس بأن هناك علاقة بين نصك هذا وقصيدة بول شاوول
هل يجب نسيان علاقة فاشلة بالقيام بعلاقة عاطفية جديدة نحن غير مقتنعين بها
هل نقوى علي معاشرة انسان لا يلمس دواخلنا
هل يمكن ان نعيش علاقة عاطفية فقط لنتجنب اسئلة الآخرين حول الوحدة
اعتقد ان اقسى ما يمكن ان يعيشه الانسان هو ان يكون مع شخص من المفروض انه يعيش معه قصة حب لكن لا ينطر في عينيه ولا يلمس يديه بل يتطلع الي الوجوه المجهولة في الخارج والتي قد تكون اقرب اليه
سلام