أعود بالذّاكرة أشهراً قليلة إلى الوراء. كيف بدأت قصّتي مع هذه المدونة؟ كيف صرت مدمنةً عليها، أنا التي حسبتُ نفسي قد تخاصمت مع الكتابة خصاماً يدوم أبد الدّهر؟ بين الفينة والأخرى، أتصفّح المفكّرات التي حصلت عليها في صغري، فألاحظ موج الأوراق النّاصعة يجتاح كلماتي اليتيمة.. هي خربشاتٌ قليلة تعكس القرارات التي يتّخذها المرء عادةً، في مطلع كلّ سنةٍ، بكل ما أوتي من عزمٍ وإرادة؛ ثمّ تمرّ الأيّام، فتخمد الشّعلة، ويترك رتابة الحياة تجرفه في تيّارها الخامد. هكذا يعيش: صمتٌ، فلامبالاة، فكآبة، فقنوط، ففراغ، فعدم!
لعلّ معظمنا بدأ على هذا النّحو: قرأ مقالةً أعجبته في مدونة ما، فرغب في إبداء تعليقه عليها. غير أنّ النّظام يلزمه بضرورة إنشاء مدونته الخاصّة قبل أن يبدي أيّ تعليق. وهكذا يجد نفسه، فجأةً، أمام تعليقٍ مكتوب، ومدونة فارغة. فتلمع في رأسه الفكرة: "ولمَ لا أكتب؟"
أمّا أنا، فلم أكتب التّعليق المذكور حيثما أردت كتابته، حينذاك. ولعلّي لن أكتبه هناك أبداً. عوضاً عن ذلك، قرّرت أن أفرغ كلّ ما في جعبتي في مكانٍ آخر، على جزيرةٍ نائية، خاصّة بي، أنا وحدي. لكن بطبيعة الحال، لم يطل الأمر حتّى أخذت أتساءل: "لمن أكتب؟ ومن عساه يحفل بي؟ وأنّى لي أن أسمع صدى كتاباتي؟" فحتّى الغريق يضيق صدره بالجزيرة التي انتشلته من الضّياع، بعد مضيّ بعضٍ من الوقت. والإنسان نفسه، ما كان ليتكبّد عناء اختراع الأبجديّة، لا بل مجرّد النّطق، لو لم تختلج في نفسه الحاجة إلى إيصال أفكاره. من هذا المنطلق، قرّرت أن ألملم زادي، وأمضي باحثةً عن أشباهٍ لي في هذا الكوكب القصيّ، عساني أسمع في الألسنة النّاطقة بألف لغةٍ ولغة صوتاً ينطق بلسان حالي.
لم أكن أدري أين أتّجه ولا كيف أبحث. رحت أتنقّل بين المدونات الغريبة على غير هدى، فأقع على الصينيّ منها، والاسبانيّ، والألمانيّ، والفارسيّ، وغيرها كثير؛ إلى أن عثرت أخيراً، وبالصّدفة، على مدونةٍ باللغة العربيّة. لم أكن وحيدة إذن! أظنّ أنّ المدونة كانت إمّا لأفريقانو، وإمّا لمحمّد من "طقّ حنك". لم أعد أذكر. ولكنّني أذكر أنّني خلّفت تعليقاً بسيطاً على تلك الأخيرة، ومشيت. أمّا المشكلة التي لم تخطر في بالي هي أنّني أخطأت في تسجيل العنوان الذي عثرت عليه. فعبثاً، حاولت زيارة الموقع مراراً وتكراراً؛ وكنت شاهدةً على كلّ محاولتي وهي تؤول بالفشل. "ترى، أكان اسمه ديرغسنغ، دوسغرسنغ، أم ماذا؟" وما لبثت أن أقلعت عن الأمر، وقد يئست من المحاولة.
كان قد مضى على ذلك أسبوعٌ أو أسبوعان تقريباً. وكانت زياراتي إلى المدونة قد بدأت تندر. لكنّ شيئاً ما حدث! أتدرون تلك الزّاوية الصّغيرة التي تختم كلّ فقرة؟ تلك التي يسمّونها "علّق" أو "تكلّم" أو "قل شيئاً بحقّ الله!"؟ كانت مضيئة! رأيت الصّفر الاعتياديّ وقد استبدل برقم واحد. في نهاية فقرتي تعليقٌ واحد! هناك من يجول في هذه الأنحاء! لا شكّ في أنّ الجميع يذكرون فرحتهم بالتّعليق الأوّل على مدونتهم. ولكنّ الطّريف في هذا الموضوع هو أنّني من فرط جهلي بالمدونات في بادىء الأمر –وربّما قليلاً حتّى الآن-، محوت التّعليق عن غير قصدٍ! لا، اطمئنوا، حمداً لله أننّي كنت قد قرأته أوّلاً. أظنّ أنّه كان تعليقاً لرامي، يرحّب بي، ويخبرني أمراً عن مدونتي ومدونة أخرى لشموسة. أعذروني إذا لم أكتب الرّوابط لكلّ هذه المواقع، فأنا أجهل كيف أفعل ذلك، وبيني وبين الأمور التّقنية عداوةٌ كبيرة. صحيح أنّ جهاز الكومبيوتر صار صاحبي الأهمّ الذي أصل برفقته الليل بالنّهار، بحكم عملي، لكنّه أحياناً يدفعني إلى الجنون! (في هذا السياق، أودّ أن أشكر قدموس، لأنّني تعلّمت بفضله كيف أحفظ ماء وجه هذه المدونة، من حيث التّصميم والشّكل :-))ثمّ ماذا تتوقّعون؟ لقد طليتُ مدونتي باللون الزّهريّ! لا أقول إنّني أملك ضغينةً ضدّ هذا اللون، ولا ضدّ المدونات التي تعتمده، ولكنّه كان يفي بحاجتي في ما مضى، إلى أن صرت أنا، شخصيّاً، بحاجةٍ للانتقال إلى ألوانٍ أخرى. أمّا لماذا لم أنتقل بعد، فلا أدري، لعلّ مدونتي انطبعت بهذا اللون حتّى تأصّل فيها، وكفى!
في مطلق الأحوال، هذه هي قصّتي مع المدونات. تكلّم الكثيرون عن حمّى قراءة المدونات... أظنّني ألتقط العدوى. مع ذلك، لا يمنع أنّني أتساءل أحياناً لمَ زوّاري جميعهم من الجنس الخشن. لا تسيئوا فهمي يا شباب :-) فأنتم على عيني ورأسي. ولكنّني فعلاً مناضلة شرسة في المواقف التي تستدعي نصرة المرأة، بشكلٍ يخيف الرّجال أحياناً :-). لذا، سيسعدني أن ألمح نون النّسوة، يوماً ما، بين حنايا التّعليقات! |
سلام
أكتب تعليقي هذا وأنا أستمع لنورا دجونز حاملة مشعل الجاز الحديث
من حقك الدفاع عن المرأة ومن حقنا الاحساس بالغيرة فكل المدونات التي تحضى بمتابعة كبيرة تملكها نساء
أتفق معك بأن المدونة قد حققت لنا نوعا من التصالح مع الكتابة وان كان ذلك قد خلق لي مشكلا جديدا يتمثل في بقاء مذكرتي الورقية فارغة بدون تعليقات
أتمنى لك مزيدا من الاستمرارية