يسألونني دائماً عن الفرق بين المترجم والتّرجمان، ولمَ لا أستطيع أن أتّخذ لنفسي الصّنعتين معاً. ويحسبون أنّ الثّاني أرفع مقاماً من الأوّل، ويتطلّب ذكاءً أكثر ومقدرةً أكبر. ولكنّني أكتب ما أكتب الآن لأقول إنهما... مختلفان وحسب.
شتّان ما بين كتابٍ مترجَمٍ يطالعه المرء في ظلّ شجرة، وما بين القصّة حين تُروى له على عجل، أو شفاهةً. كذلك هي الحال حين يقابل بين نصٍّ مكتوبٍ، وآخر مسموع... فالتّناقضات تتكاثر، إنما من غير أن تلغي أفكاراً يجتمع عليها الاثنان.
تنبغي الإشارة أوّلاً إلى أنّ التّرجمان محاطٌ بظروفٍ خاصّة لا تمتّ إلى المترجم بصلة. فالوقت عاملٌ لا يستهان به أثناء تأدية المرسلة. بالنّسبة إلى التّرجمان، فإنّ إيصال المرسلة عمليّة فوريّة، لا مجال فيها للتّفكير المطوّل والتردّد والأخذ والرد. أمّا المترجم، فإنّه يتناول فكرة، ويقلّبها في رأسه، ويوازن بينها وبين غيرها قبل أن يجد ضالّته أخيراً. ورغم أنّ ذلك لا يعني أنّه يستطيع التّصرف في وقته وفق هواه، إلا أنّه يتمتّع، في هذا المجال، براحةٍ تفوق راحة التّرجمان.
قبل المباشرة بالتّرجمة الفعليّة، يقبل المترجم على النّص، فيتجاوز ظاهره متغلغلاً إلى الباطن، مستنبطاً المعاني ومحلّلاً الأفكار. وقد يقدم على جدولته في لوحة إعادة الكتابة، متنبّهاً إلى علامة وقفٍ هنا، وتواتر هناك. فكلّ فكرةٍ مكتوبة تستحقّ أن يتوقّف عندها عساه يكتشف معنىً متخفيّاً في طيّاتها. لكن تلك ليست حال التّرجمان. فهو لا يولي نصّه تحليلاً بهذا العمق، نظراً إلى ضيق الوقت أوّلاً، ولأنّ أثر الفكرة المكتوبة يبقى، في الإجمال، بعد حين طويلٍ، أي بشكلٍ يفوق أثر الكلمة الشّفهيّة، ثانياً.
وعلى عكس المترجم، يوجّه التّرجمان مرسلته إلى مستهدفٍ حاضر أمامه يستمع إليه، ويراه في معظم الأحيان، ممّا يسهّل عليه عمليّة التّواصل. فالنّجاح في أداء المرسلة لا يقتصر على الكلمات وحسب، إنما يتعداها إلى عوامل أخرى، كحركات اليدين ونبرة الصّوت وإيماءات الوجه. كلّ هذه عناصر تختلف باختلاف مرسلة النّص. ففكرة الغضب، مثلاً، تستدعي صوتاً جَهْوريّاً لا خاملاً خافتاً، والفكرة المضحكة قد لا تصل على لسان ترجمانٍ بوجهٍ يقارب البكاء... أمّا المترجم، فالكلمات هي وسيلته الوحيدة لإيصال مرسلته، فإمّا أن يفهم المستهدف أو لا يفهم، سيّما وأنّ مخاطبه غائبٌ، ولا احتكاك مباشر بين الاثنين. من هنا، تنشأ بينهما علاقةٌ من نوعٍ آخر، تقف الصّفحات حاجزاً ما بينها، بالإضافة إلى الزّمان والمكان. فزمان المترجم غير زمان القارىء، ومكانه مختلفٌ عن مكانه. من هنا، تختلف عمليّة إعادة الصّياغة اختلافاً كبيراً.
ولا يخفى علينا أنّ المستهدف في عمليّة التّرجمة الفوريّة يأتي إلى المؤتمر- على سبيل المثال- ليتعرّف أفكار موضوعٍ مألوف ومهم بالنّسبة له. إذاً، من المفترض أنّه تشبّع من معلوماته. كما أنّ جوّ المؤتمر نفسه، والظّروف المحيطة به تساعده على الفهم؛ والحوار مع التّرجمان وإمكانيّة طرح الأسئلة يظلان مفتوحين على الأصعدة كافة. إذاً، يتوجّه التّرجمان في الغالب إلى مستهدفٍ معيّن في مجال محدّد. ورغم أنّ هذه قد تكون حالة المترجم نفسها، إلا أنّه في أكثريّة الأحيان، تراه يوجّه مرسلته إلى القرّاء جميعهم، مهما كانت خلفيّاتهم الاجتماعيّة أو الثّقافية، بشرط أن يعرفوا القراءة طبعاً.
وفي غضون مرحلة إعادة الصّياغة أيضاً، يصطدم كلاهما بعوائقَ متعدّدة. فالمفردات تتمرّد أحياناً على التّرجمان، رغم سهولتها، فيعاني ضعفاً مباغتاً في الذّاكرة سرعان ما يتلاشى. أمّا عائق المترجم، فأطول وأكثر تعقيداً. فالإلهام يعصى عليه في بعض الأوقات، فيحول دون قيامه بالتّرجمة حتّى تمسي هذه عمليّة شاقّة، ويخسر النّص من وداعته مستحيلاً ذلك السر الأسود الذي يصعب حلّه.
وعمليّة التّشبع مهمّة كذلك، يستفيد منها التّرجمان أكثر منه المترجم. فالأوّل يقبل على مؤتمرٍ زراعيّ مثلاً، متسلّحاً بمصطلحاتٍ ووثائقَ خاصّة بالزّراعة. أمّا الثاني، فكيف يتشبّع إن كان بصدد ترجمة شعر؟ ما عليه إلا أن يعتمد على الملكية الإبداعية التي ينبغي أن يتحلّى بها. وإن كان المترجم يتمتّع بملكيّة التّعبير الخطّي الإبداعي التي يفتقر إليها التّرجمان، فإنّ هذا الأخير يمتلك، في دماغه، قدرة القيام بعملين مختلفين في الوقت نفسه، كفهم المرسلة وإعادة التّعبير عنها؛ ومن هنا الاختلاف في تركيبة دماغ كلّ منهما. فيستحيل على التّرجمان أن يترجم الشّعر فوريّاً، كما يصعب على المترجم أن يملك موهبة زميله بسحرٍ ساحر! وإلا ما جدوى أن يتلقّى كلٌ منهما دروساً مختلفة عن الآخر، خلال سنوات الدّراسة؟
وإن كان المترجم يلجأ إلى المعاجم أحياناً ابتغاءً لفهم بعض المصطلحات، فإنّ التّرجمان لا يملك وقتاً لذلك. بل ينبغي للمعاني أن تكون حاضرة في ذهنه، جاهزةً للاستعمال. من هنا، فهو لا يستخدم القاموس، سواء كان أحاديّ اللغة أو ثنائيّها، أثناء العمليّة التّواصليّة.
وتبقى الإشارة أخيراً إلى أنّ الاثنين يلتقيان في الانطلاق من مرسلٍ معيّن إلى مستهدفٍ معيّن، حاملَين معهما مرسلةً ينبغي تأديتها. والمرسلة تبلغ في النّهاية أذني المستهدف، مهما اختلفت وسيلة نقلها. كلاهما منخرطٌ إذاً في العمليّة التّواصلية، يحشد من أجلها كلّ طاقته. من هذاالمنطلق، تراهما ينميّان مخزونهما المعرفيّ وكفاءاتهما، كي يصلا المؤلّف بالمستهدف والمستهدف بالمؤلّف. وبعبارةٍ أخرى، هما ينطلقان من فهم المعنى وتجريده في الذّهن، قبل أن يعيدا صياغته في اللغة الأخرى، وفي جعبتهما ملكات اللغات. وهكذا، عندما يشتركان في امتلاك مخزونٍ معرفيّ، ولغاتٍ عصيّة على الغير، وقدرةٍ مزدوجة على الفهم وإعادة الصياغة، ألا يستحقّان حينها، وبكلّ جدارة، لقب "مرسال التّواصل"؟ |
سلام
أشتغل كصحفي في جريدة مغربية ولدينا قسم للترجمة به ستة أشخاص بعد قراءتي لموضوعك سألتهم هل يعرفون الفرق بين المترجم والترجمان فسبحوا بي في بحور من التحليلات غير الدقيقة وبطبيعة الحال وبشيطانية بريئة استغليت الفرصة وسردت عليهم ما قرأت في موضوعك وهم الان يحاولون بكل الوسائل معرفة مصدر معلوماتي لكن ودائما في إطار الشيطنة سأجعلهم ينتظرون الي يوم الإثنين
شكرا لك