عندما كنت صغيرة، لم أكن أرضى بتناول طعامي إلا وأمّي تحكي لي حكاية. أذكر القصص الملوّنة التي كانت تقرأ لنا منها أحياناً، والخبريّات التي لم تكن تحتاج إلى كتبٍ في أحيانٍ أخرى. وأذكر احتجاجي وصراخي حين لم يكن الوقت يسمح لها بسرد واحدةٍ منها في كلّ مرة.
كنت أرفض أن تجري أحداث الحكايات وفق مجراها الطّبيعيّ. فلمَ عسى الدّجاجة الذّهبيّة، في قصّة سام والفاصولياء، تبيض ثلاث بيضاتٍ ذهبيّة وحسب؟ كنت أعدّ هذا مضيعةً لفرصةٍ ثمينة، وأطالب أمّي أن تجعل الدّجاجة تبيض ذهباً حتّى نهاية عمرها! مسكينةٌ الدّجاجة! أذكر كم تجادلنا حول هذا الموضوع :-). والذّئب في قصةّ "ليلى والذّئب" (كان اسمها رباب في بعض القصص)لم يأكل ليلى، بل استطاعت هذه الأخيرة أن تختبىء في الخزانة، بانتظار وصول النّجدة! لاحقاً، اكتشفت أنّ ذات الرّداء الأحمر ما هي إلا رمزٌ عن تحوّل الفتاة إلى امرأة، وأنّ الذّئب يرمز إلى تجربتها الجنسية الأولى، والقصّة بأكملها مليئةٌ بالرّموز الأخرى المثيرة للاهتمام. (لو عرف بعض التّافهين هذه الحقيقة، لأخذوا يندّدون بهذا الانحطاط، ولمنعوا سرد هذه الحكايات على آذان أطفالنا! :-) ولكن ما علينا!)
"كيف شعرت الأميرة بحبّة الفول يا أمّي؟"
"وكيف يعقل أنّ أحداً في المملكة لم يكن يملك قدماً بحجم قدم سندريلا نفسه؟"
ثمّ: "يا له من غبيّ هذا الأمير! كيف لإنسانٍ أن يحدّد هويّة الفتاة التي سيرتبط بها بناءً على فردة حذاء؟!!"
ثمّ كبرت.. ولم تعد أمّي تقصّ عليّ القصص. صرت أنا أطالعها وحدي. وآكل وجباتي وحدي. صار تان تان، الصّحفيّ الذكيّ، من بين أهمّ أبطالي. ولعلّي ما زلت أتأمّل أن تتوفّر في الرّجل الذي سأرتبط به يوماً نفس صفات البطل المصوّر هذا، باستثناء قصّة الشّعر الغريبة، واقتناء كلبٍ طبعاً.
أذكر الرّسوم المتحرّكة التي كانت متوافرة لجيلنا أيضاً. هي غير تلك الموجودة اليوم، من أبطال تقنيّين ملمّين بالكومبيوتر والدّيجيتال وغير ذلك ممّا يجعلني أشفق على أطفال هذا العصر... لا ردّ الله زمن انقطاع الكهرباء والحروب. فحين كانت الدّولة تنعم علينا بالكهرباء، مصادفةً، كنّا نهرع عند الثّالثة من بعد الظّهر، عند عودتنا من نزهةٍ حول البستان، لنتمركز أمام زينة ونحّول. كما نتابع لولو وطبوش، وطوم وجيري (يا مسكين يا طوم)، والفهد الزّهري، وعدنان ولينا، وغير ذلك كثير كثير.
ماذا بقي لي اليوم من كلّ هذا؟ لا شيء. لا شيء بتاتاً. أستعيد هذه الأحداث الآن، كأنّني أفكّر في فتاةٍ أخرى، في حياة ليست بحياتي، وزمنٍ لا يخيّل لي أنّني عشته قط. كم تغيّرت! لا أدري إن كانت أنفاس تلك البنت الصّغيرة ما تزال تمتزج بأنفاسي، ولا إن كان طيبها عندما تقطف الورد والصّعتر ما زال عالقاً بثيابي. هي أشبه بمجهولة. حقيقةً. صدقاً. أكاد لا أتعرّف بريق عينيها، ولا اندفاعها أو براءة ضحكاتها... اعذريني يا صغيرة، أحتاج إلى محوك من ذاكرتي؛ إلى وأدك وأنت لمّا تزالين حيّة؛ أحتاج إلى إطلاق سراحك للرّيح، لأنّك تنتمين لبلاد الشّمس والغار وأقواس القزح. إفهميني. أودّ أن أطرح عنّي منظر وجهك حين تجرّحه الخيبات المتتالية، وأنتزع من صدري ذكرى البريق وهو ينطفىء شيئاً فشيئاً في مقلتيك. لا تبكي أرجوك، أحتاج حقّاً إلى نسيانك، وإن رغماً عنّي، لأنّ الألم الأعظم في الدّنيا هو رؤية البراءة وهي تنازع في قلب طفل، قبل أن ينتقل إلى عالم الرّاشدين.
أنظر إلى صورتك اليوم وأخاطبك للمرّة الأولى، لأجدك ما زلت هنا، قابعةً من زاويةٍ ما من زوايا هذا القلب. لم تنتحري بعد. حسنٌ... نعم. أعترف، اشتقت إليك. لكن مهلاً. لا أرغب في أكونك أنت. فأنتِ وأنا افترقنا منذ عهدٍ بعيد، ولو عدنا الآن ما أظنّنا سنتّفق. كثيرٌ من الأشياء اقترفتُها، ولا أظنّك ستفهمينها أو تتقبّلين حدوثها. لا بأس. فأنا لا أتقبّل الكثير من خطواتك الطّائشة أيضاً. لا بل إنّ بعضها ما يزال يقضّ مضجعي حّتى اليوم. أنت وأنا نتشابه في لون العيون لا أكثر. وحده اللون لم تنجح يد الزّمن في تغييره. وحده اللون يبقى شاهداً على العمر الذي ولى، بكلّ أفراحه وويلاته، بكلّ سأمه وجنونه. بالله، حاولي أن تفهمي. لا أريدك، لأنني لا أريد أن أمرّ مجدّداً بلحظات الإحراج التي كنت تحرقينني بنارها، ولا أن أذكر المشاكل التي كنت سبب اندلاعها، ولو عن غير قصد. لا أريدك لأنّني لا أحبّ استرجاع مشهد والدي المريض، ولا يوم وفاته، ولا أرغب في اكتشاف ظلم الأقارب ووحشة العالم. لا أريد خجلك، وضعفك. لا أريد ثقتك المفرطة بالأشخاص. لا أريدك، لأنّ أرض الحكايات فارغة، والدّجاجة لا تبيض ذهباً مهما أصريّت وبكيت وطالبت أمّك بتغيير النّهاية. إذهبي. عودي من حيث أتيت. فأنا الآن أفكّر كالرّاشدين، بعمليّتهم وعجلتهم وتحجّرهم ولامبالاتهم. نسيت لغة الأطفال، وعنوان العالم الذي أقبلت منه. صدّقيني لن يعجبك هذا المكان. ففيه زلازل وأعاصير، وفيه قلق وهموم؛ وفيه النّاس مقسّمون حسب الأديان، يتحاربون من أجل الله، ويقتلون باسمه، فيما الله بريء منهم واسمه الحبّ والجمال والسّلام. أمّا أنت، فغير معتادة على كلّ هذا بعد... سامحيني يا صغيرة، فهذا العالم ليس أهلاً بك. لكن على الأقل، أنت من علّمني كلّ هذا.
|
عزيزتي ..
لم أفكر كثيرا قبل كتابة هذه الكلمات ..
لان كلماتك الصافيه كـ سماء خالية من الغيوم ،،
بدا لي أنها تخاطبني ..
لم أترو في قرآئتها ..
ولم أستبق الأحداث أيضا ..
ولكنني كنت أعد نفسي لـ استقبال آلاف الذكريات عن طفولتي ..
وما أروعها من ذكريات ..!
عزيزتي ..
ذهلت .. بل صدمت عندما لم أجد أي تعليق على هذه الصفحة النقيه ..
وسررت جدا لأنني سـ أكون أول المعلقين ..
ولربما ،، فكرت قليلا ..
في هذه الصفحة المليئة بـ ألوان الطيف ،،
سـ يكون الحبر الأسود أمرا مستهجنا ..
فما عساي أن أوقع به ..
بحثت عن حافظة ألوان الطفوله ..
فـ وجدتني أميل إلى البنفسجي كثيرا ..
تمنيت لو أنني أستطيع تلوين كتاباتي .. مثلك سيدتي ..
ولكنني لا أملك تلك القدره ..
صدقيني أعجبت كثيرا بما كتبت ..
ولكِ مني كل تحية واحترام
ولكِ من كل اعتذار لو كنت أطلت في كلماتي ،،
أو تعديت على صفحاتك ..
..
.:. زهور البنفسج .:.