لا أدري لمَ تصرّ السّماء، في كلّ مرّة، على زخّ المطر عند حوالى الخامسة مساءً؛ أي عندما أتأهّب للخروج من مركز عملي بالضّبط.
أغلقت الباب خلفي بهدوء كما أفعل في كلّ مرّة، ومضيت بخطىً حثيثة أسلك المنحدر البسيط المفضي إلى البحر. نسيمٌ بارد يلفح وجهي، والقطرات الخفيفة بدأت تعلن عن وجودها بقوّةٍ متزايدة... دقيقة، اثنتان، خمس، عشر... أين تلك الحافلة بحقّ الله؟ يطول انتظاري، إلى أن يلوح في الأفق من بعيد مشهد مركبةٍ مهترئة؛ لكنّها تتلألأ في نظري حتّى تنحسر ما دونها كلّ سيارات المرسيدس والبي. إم. الفخمة العابرة: هيّا إلى البيت! وبدءاً من تلك اللحظة، أنفصل عن العالم ما حولي، وأتّحد بزجاج النّافذة الذي يكشف لي عن مسارح خياليّة من صنع أهوائي.
تعبة أنا.. ومزيجٌ من الدّوار والجوع والإنهاك يتحكّم برأسي. بين الفينة والأخرى، تطالعني وجوهٌ جديدة وأخرى صارت مألوفة. أسمع ولا أسمع. أفكّر، أدرس، أحلّل. لكلّ عينين حكاية، وفي أعماق كلّ نظرة لوحةٌ مرسومة على الجبين.
"بدّي إنزل هون إذا بتريد".
أسير. وأسير. لا أنيس لي إلا صوت خطواتي تسير معي، وضربات المطر على مظلّتي. لأمكنني السّير على هذه الحال الليل بطوله. تحملني الأفكار إلى عالمٍ آخر من جديد، ولا أدري ساعتذاك كيف أتمكّن من تفادي الاصطدام بالمارّة، وعبور الشّوارع بسلامة. كم أقدّس هذه الدّقائق العشر! ففيها من طمأنينة النّفس وسكونها ما لا يحفل به أيّ سكونٍ سرمديّ. وبفضلها صار لي شارعٌ بأكمله، أعرف فيه "الدّكنجي، والخضرجي، والخيّاط، والمكوَجي، والمانيكوريست، وصاحب المكتبة..."، تماماً كالذي كنت أقرأ عنه في دروس القراءة.
أفتّش في حقيبة يدي عن مفتاح البيت. وحقيبتي هذه مغارة علي بابا، تغوص يدي فيها لتكتشف ملاذاً غريباً لأغراضٍ من كلّ حدبٍ وصوب؛ كلّ الأغراض ما خلا المفتاح طبعاً!
... أتنقّل بين الموجات التّلفزيونية. تستوقفني أغنيةٌ أحياناً، أو برنامجٌ ممتع إن كنت محظوظة. لكن في أغلب الأحيان، أبقى أنتقل بين شاشةٍ وأخرى بعنادٍ وإصرار، كمن يتلمّس وراء السّطح الصّلب نظرةً دافئة، أو لمسة يد، أو ربّما انعكاساً لوجهه الخاص. غير أنّ النّظرة دائماً غائبة، وتلك المذيعة تخترقني بنظراتها، تتجاوزني كأننّي لست ذلك الظّل المتهالك إزاءها. أرمي جهاز التّحكم في زاويةٍ ما، ولا أدري هل أتحسّر على يومٍ رتيبٍ آخر، أم أقدّر فيه الجمال الكامن تحت الغبار. قبل أن أتوجّه إلى السّرير، تحين منّي التفاتة إلى الفتاة التي ترمقني من قلب المرآة. هي تعرفني جيّداً، مع أنني أتوه عنها في بعض الأوقات. أعثر عليها. أطلق تنهيدةً بسيطة. ثمّ أبتسم لها بحبّ، ولسان حالي يقول: "غداً". |
You have a beautiful style of writing and wonderful imagery.
Please keep writing, I want to keep reading :)