لا أدري ماذا أقول عنهما، ولا كيف. حين حكوا لي، أخرستني الحكاية. جفافٌ هو، يكتسح حلقك، وييبّس الأطراف منك، ثمّ لا ينحسر حتّى يخلّفَ في الأحشاء تصلّباً وجمودا. جفاف. شعورٌ بالغثيان. اشمئزاز. تعتاده نفسك حتّى يتأصّل في رائحة ثيابك، وفرشاة أسنانك، والنّظارات التي بها ترى العالم.
قالوا: هي الحكاية نفسها. قالوا هو "الغربية" وهي "الشّرقية" -أم تراه العكس؟- صبغوا شمسهما بأسماء وهميّة. وشوّهت الأسماء جمال القضيّة. لماذا؟ لأنّ الحبّ بين قلبين قضيّة وأيّما قضيّة. نرفع لواءها عالياً في ميادين الثّورة، ونناضل باسمها من أجل الحريّة. ساذجين، نقتسم رغيف الحبّ؛ وهازئين يبصقونه ويُردونه في جوازات السّفر وعلى الهويّة. فعلاً، بئساً لهويّة تقتل المسلم لإسلامه، وتفتك بالمسيحيّة لأنّها مسيحيّة.
كم كان يوشوش لها: "أحبّك". فتضحك هي ضحكتها الرّنانة نفسها وتجيبه: "كاذب!"، لا لشيء إلا لتسمعه يعيدها على مسامعها مرّةً واثنتين وثلاث. وعندما تأخذ الحماسة منهما كلّ مأخذ، أو تهلّ عليهما مفاجأةٌ من حيث لم يتوقّعاها، تفلت منه هو عبارة: "يا لطيف!"، فيما تهتف هي: "يا عدرا!". فيلتفتان إلى بعضهما البعض وينفجران ضاحكين في آن. ثمّ ما يلبثان أن يحوّلا ناظريهما نحو البحر، ويمكثان على هذه الحال، معاً، لساعاتٍ، هو وهي و"المتلطّف به" و"عذراؤها". لم يكن يسألها عن إلهها قبل أن يطبع على شفتيها قبلة، ولم تكن هي تبالي بربّه حين تنظر في عيونه العسليّة؛ ولكنّهما، منذ التقيا، أيقنا أنّ العالم، والأرض، والجمال بأسره لا بدّ من صنع إله!
زياد ونادين. من قال لكما أن تولدا في مقبرة الحبّ؟ من أخبركما أنّ هذا المكان القصيّ على ساحل المتوسّط موئلٌ لمشاعرَ غير البغض والحقد والطّائفيّة؟ تراكما لم تهبّا علينا، أهواءً تسبر أعماق الأرض، ورياحاً نهريّة تتدفّق نحو البحر، شأنها منذ الأزل، وفكرةً تفوق العواصف كلّها جنوناً، لا، لم تهبّا على هذا المكان، أيا نسمتا صيف، إلا لتقضيا فيه.
ثمّ...
باتت الوحوش تتقاذف بالقنابل، فخفّت لقاءاتهما. كانت النّساء ركضاً والأطفال بكاءً، فضاع وجهاهما بين الحشود. غصّت الملاجىء برائحة الخوف وتهاوت الأبنية يوماً تلو الآخر، فحلّ الفراغ. "أتدرين"، قالوا لي، "المدن أيضاً تموت. يحشرج صدرها، وتُنشب المنيّة فيها أظفارها، وتقطّع أوصال جسورها، وتنفث في شرايينها سحابةً سوداء كبيرة. وما تلبث أخيراً أن تلفظها خيالاً أجرد، شاخصاً بصره نحو الحقيقة التي لا نراها، نحن البشر..." أزيز الرّصاص كان عالياً. أعلى من صوتيهما. نادته، فلم يسمعها. وقع، فلم يجدها أمامه. لعلّ ما حدث ليس بذنبهما. لعلّ القدر كان أقوى. ولمَ لا؟ أفلا يلوم النّاس القدر دائماً؟
-إنني راحلٌ. مهاجرٌ إلى أستراليا. - سيزوّجونني ابن الخواجة موريس.
وهكذا كان. لم تردعه، مع أنّها ودّت لو تطوّقه وتمنعه من الرّحيل. سمّوه ما تشاؤون: كبرياء، خوف، ضعف، استسلام... لا يهمّ. وهو لم يمنعها كذلك. ربّما ارتأى أنّ هذا هو أفضل الحلول، وأنّ البلاد الواقعة على وجه الكرة الأرضيّة الآخر ستحمل إليه عزاء النّسيان. ربّما، لا أدري، لم يخبروني عن السّبب. وأنا لم أكلّف نفسي عناء السّؤال. ففي بعض الأحيان، الأفضل أن تسكت وأنت تلعن الصّمت ألف مرّة، من أن تفرج عن الصّوت الذي لا ينام. ولكنّ الأرجح أنّهما خنقا نجوى العيون الفاضحة، ومضى كلّ منهما في طريقه، "لأنّو هيك الأصول، وهيك لازم، وهيك تربّينا..."
(بعد عقدٍ أو عقدين) في إحدى أمسيات بيروت الخريفية، كانت سيّدة تهرب من قطرات المطر المفاجئة وهي تمسك بيد طفلها الصّغير.
-تعالي نركض تحت المطر يا أمّي.
ترتسم ابتسامةٌ على الوجه الملائكيّ، حيث شقّت تجعيدةٌ خفيفة طريقها نحو زاوية العينين؛ ولكنّه وجهٌ ما زال نضراً، يتموّج شعره الكستنائيّ الغزير بلون الرّبيع، مسبغاً على صاحبته جمالاً لم تقضِ عليه يد الزّمن بعد.
- ستصاب بالزّكام. هيّا زياد، إلى البيت.
غير أنّ زياد ينجح في التّفلت من قبضة الأمّ، ويروح يقفز من بركة ماءٍ إلى أخرى، غير عابىءٍ بصوتها ينهره ويأمره بالتّوقف. ويستمرّ بهما الأمر على هذه الحال، حتّى يصطدم الصّغير بعابرَين صادف مرورهما في ذلك المكان. كان رجلاً قد كلّل الشّيب بعض خصلات شعره، متناسياً شيئاً من رذاذه على خارطة وجهٍ مائلٍ إلى الصّفار، وعينين خالط الرّماد لونهما العسليّ. أمّا المرأة التي ترافقه، فلا يخفى جمالها على أحدٍ، تدلّ ملامحها على شخصيّةٍ حازمة، تعرف كيف تتّخذ قراراتها من غير تردّد.
تنتشل الأمّ طفلها المشاكس. ترفع رأسها، وهي تهمّ بالاعتذار من ضحيّة ولدها الجديدة. لكنّ اللسان ينعقد فجأةً، والكلمات تخرج بعضها في إثر بعضٍ، بتلعثم. أمّا المكان، فيبدو كأنّه خارج دائرة الزّمن الرّاهن، كفى به شذوذاً أنّ عقارب الوقت قد تقهقرت بغتةً لتردّها بصفعةٍ واحدة إلى صورٍ حسبت أنّها قد أحرقتها.
- أنا... أنا... آسفة.
يردّ الصّوت الآخر الآتي من بعيدٍ: "لا بأس..." ثمّ يضيف بعد صمتٍ ليس بقصير: "ما اسمك أيّها الصّبيّ اللطيف؟"
- زياد، اسمي زياد.
تلتقي العيون لوهلةٍ. بدت كأنّها تجول فلا تهتدي، وترمي فلا تصيب. ثمّ ساد أنينٌ صامت، لكن شجيّ، اتّخذ للحال روحاً وصوتاً. مكثا على هذه الحال، لا يأتيان حراكاً، بهما من التوتّر ما كاد يحملهما على... لكن لمّا انقضى عمر الهنيهة الأولى، استدركا نفسيهما، فتأبّط ذراع زوجته، كما خُيّل إليها، وربّت على كتف الصبيّ، ثمّ أمال رأسه بالتّحيّة و... مضى.
- من هذا الرّجل يا أمّي؟
-لمَ نظر إليك الرّجل الغريب هكذا يا أمّي؟
- أمّي، لماذا تبكين يا أمّي؟
ابتلعت الأمّ الأخيلة التي بدأت تترقرق في مقلتيها، ثمّ تمتمت:
- لا، لا شيء. إنّه المطر وحسب. هيّا بنا.
حانت منها التفاتةٌ إلى الوراء. فالتقى منهما الطّارفان للمرّة الأخيرة. لقد أزفت ساعة وداع المراهقة التي هجمت من داخلها، وهذا الغليان، قريباً، لن يبقى منه إلا الذّكرى. سوف تعيد تكديس الغبار فوق ما قبع طيّ ذاكرتها، وتكون غايةً في اللامبالاة ساعة تودّعها. سوف تترك المعالم تضمحّل وتندرس. هكذا... شيئاً فشيئاً، بحرقة من يعرف أنّ ما فات لن يعود، ومن يتساءل بأيّ ثمنٍ أشتري ما فات، وماذا عساي أفعل حين يعود؟ لو عاد، لذرفتُ دموعاً عجزت عن ذرفها آنذاك، ولو عاد لبذلتُ حياتي كي ألامس يده ليس إلا. لأقول: لو تبقى قليلاً! قليلاً بعد!
الموت بهذه الطّريقة، ببطءٍ، بتشنّجٍ، بخفوت.. الموت حين ترتطم الرّوح بالأرض، دون صوت.. كانسياب الحرير فوق حدّ الخنجر.. الموت سأماً من الحياة.. هذا الموت لأشدّ وقعاً على النّفس من ألف عذابٍ. لكن أفليست نهايةً متوقّعة وعادلة لمن اختار مسبقاً ألا يعيش حياته؟
كلّ أبجديّة تاريخٌ خُطّ ومضى. تتلاقفها الأيدي، تتنقّل على الألسنة، تدغدغ المسامع، ثمّ تشدّ الرّحال، وتمضي. فنستفيق فجأةً لنقرأ ما كتبناه بريشتنا. ما جنته أيدينا. ما اقترفناه في حقّ أنفسنا. ما كتمنا عليه الأنفاس. لنكتشف أنّنا، في خضمّ بحثنا عن العمر، نسينا أن نعيشه. لكنّ ريشتي هذه غير ريشتهم. أغمّسها بحبر نقمتي، لأطالب بإيقاف هذه المجزرة بحقّ طفلٍ صغير اسمه الحبّ. لأهتف لا تجعلوا هذا الوطن مذبحةً للأحلام، لا تقتلوا فينا الأحلام... فإنّ مدادي هذا بضوع الحلم والله عابقٌ.
|
"كلّ أبجديّة تاريخٌ خُطّ ومضى. تتلاقفها الأيدي، تتنقّل على الألسنة، تدغدغ المسامع، ثمّ تشدّ الرّحال، وتمضي. فنستفيق فجأةً لنقرأ ما كتبناه بريشتنا. ما جنته أيدينا. ما اقترفناه في حقّ أنفسنا. ما كتمنا عليه الأنفاس. لنكتشف أنّنا، في خضمّ بحثنا عن العمر، نسينا أن نعيشه. لكنّ ريشتي هذه غير ريشتهم. أغمّسها بحبر نقمتي، لأطالب بإيقاف هذه المجزرة بحقّ طفلٍ صغير اسمه الحبّ. لأهتف لا تجعلوا هذا الوطن مذبحةً للأحلام، لا تقتلوا فينا الأحلام... فإنّ مدادي هذا بضوع الحلم والله عابقٌ."
يخرب بيتك يا أيف
يخرب بيتك
علاء