يقترب نحوها من آخر زاويةٍ في القاعة. يقترب باندفاع. يشقّ طريقه وعيناه منصبّتان على ذلك الجسد المتكاسل فوق مقعدٍ، وسط مجموعةٍ من السّاهرين. يخال أنّهم جميعاًَ يختلسون النّظر إليه. يخال أنّهم يتضاحكون على عرجه وطريقته الفاضحة في السّير، وأنّ نظراته الحافلة بالغيرة تبعث فيهم شيئاً من التّسلية. لكنّه رغم ذلك، يتقدّم... نحو ضحكتها الرّنانة، نحو شفتيها المكتنزتين، نحو حتفه المحتوم، يتقدّم بكلّ ثبات.
يتوقّف فجأةً. يتذكّر أنّه مملّ... أنّه بغيضٌ ولا يحسن الرّقص. يتذكّر أنّه لا يعرف إلا الثّمالة والنّوم على عتبات أبواب موصودة. وأنّه يتيم، لا ذاكرة انتماءٍ له، ولا حضناً إليه عاد يوماً. يعرف في قرارة نفسه أنّه، أمام النّساء ذوات الفساتين الحمراء، يمسي ظلاً أسود، قبيحاً. فيترك أهدابه تنسدل بانهزام. يترك الهزيمة تنهمر عليه وحلاً لزجاً، يخترق فروة رأسه، ليخرج من منخريه وأذنيه وكلّ فتحةٍ أخرى في جسده؛ يخرج دماً نتناً يبصقه بلا هوادة، ممزوجاً بقيئه وضعفه وأصوات ضحكاتٍ لا تنفكّ تتعالى. يفتح جفنيه ثانيةً. وحده الغبار، وخيوط أسراب العناكب، كانت تعشّش بين أصابعه وفي قلب الأظافر.
فجأةً، رآها تنهض عن مقعدها. أرسلت في ناحيته همسةً واحدةً. واحدة فقط. ثمّ أدارت المسجّلة على لحنٍ غريبٍ، قادمٍ من مجاهل غاباتٍ همجيّة. لا يعرف حقّاً. لم يفهم. وفي وسط القاعة، خطفت شالاً أخضر اللون من على كتف امرأةٍ مجهولة، ثمّ تركت جسدها يتمايل بدلال. أثارت انحرافاتها النّارية امتعاض بقيّة النّسوة، لا سيّما وأنّ الأوان لم يكن أوان رقصٍ قطّ. ولكن بدا له أنّها كانت في مكانٍ آخر، تبحث عن شيءٍ ما، عن فراشةٍ في بيتٍ مهجور، أو وطنٍ تأخّر ولم يأتِ في موعده. شيئاً فشيئاً، تصير حركاتها أكثر عنفاً، وتخبّط بكعبها على الأرض، كأنّما تسحق قلبه العفن تحت قدميها، أو قلوباً كثيرة مثله اغتصبتها مراراً وتكراراً. أو ربّما كانت هي المغتصَبة في كلّ مرّة، ولا من يدري. شعرها المعقوص يتحرّر فجأةً من أسره، ويروح يتنفّس بعشقٍ فوق كتفيها، فيما الخصلات تضرب على وجهها بكلّ قساوة. لمن ترقص صاحبة الفستان الأحمر؟ لعيون الغرباء الحافلة بالرّغبة، أم لقلبه التّائه عن دربه، أم لآثامٍ متناسلة في أزقّة الذّنوب؟ لمن ثورات هذا الجسد، وأنين القدمين اللتين تعرّتا من حذائهما، والأهازيج المنتفضة على امتداد الذّراعين وفي أطراف الأصابع... لمن؟ ولماذا ترقصين يا ليلاً لا يشبع، وصبحاً لا يُقبل؛ يا صمتاً لا يُحصى، ولعنةً لا تهدأ؟ أما فات أوان الرّقص بعد؟
بحلول ذلك الوقت، كانت قد دخلت في حالةٍ من الخدر اللّذيذ، تداخل فيها اللّحن بالحركة، والحركة بالرّوح، فأصبحت هي النّغمة وهي الشّدو، تعلو تارةً لتعانق الثّريا، ثمّ تهبط فجأةً في التواءاتٍ متكسّرة. صارت كلّ لفتةٍ من لفتاتها تحكي قصّة وجعٍ قديم، عن قومٍ أحبّوها حتّى قتلوها حبّاً، وتنازعوا عليها حتّى نهشوها ورموا لحمها للكلاب. لم يرَ في حياته امرأةً ترقص بمثل هذا السّحر قبلاً؛ لم يبصر رقصاً يقطر دمعاً، ولا شهد جسداً يذرف ورداً وشوكاً في آنٍ قبلاً قطّ... لم يعرف وطناً تجسّد في امرأةٍ، ولا امرأةً صارت هي الوطن؛ ولا عرف حرباً اندلعت في حلبة الرّقص، ولا تمايلاتٍ اخترقت الأفئدة الضّريرة، كما عرفها مع صاحبة الفستان الأحمر. في هذا المكان وهذه اللّحظة بالذّات. همست له ثانيةً. كانت لغةً غريبة، قادمة من مجاهل غاباتٍ همجيّة، لكنّه فهم كلّ كلمةٍ من ندائها. وصارت الهمسات تعلو: لقد كانت تدعوه للرّقص.
لوهلةٍ، نسي أنّه أعرج، وأنّ له في السّير طريقة فاضحة. نسي أنّه ظِلّ، وأنّه مملٌّ وقبيحٌ ولا يجيد الرّقص. نسي كلّ ذلك، وتقدّم نحوها ليسجّل انتماءه الأوّل والأخير.
|
"وتقدّم نحوها ليسجّل انتماءه الأوّل والأخير.
"
الأخير؟ متأكدة؟ ما في شي ثابت بهالحياة ما هيك؟
رغم هيدا عاجبتني.. بسترجي قول لأ؟
:)
لأ عن جد.. كتير حلوة