حسنٌ... أعترف... لقد حذّرتِني قبلاً من مغبّة الرّحيل. قلت لي إنّك لا تلازمين من لا يجيد أصول التّحاور مع حزنه. أخبرتِني أنّني سأندم... لا بل أذكر أنّ كلماتك كانت بالتّحديد: "سأعضّ أصابعي ندامةً". قلتِ لي إنّ من يطلّق حزنه، فكأنّما يسلك درباً يلملم فيها الشّوكَ بأصابع ميبّسة، ويستحمّ كلّ ليلةٍ في بحيرةٍ جافّة. قلتِ إنّ من يطلّق حزنه لا يعيش حقّاً.
أذكر أنّني خلعت حذائي الوحيد حينذاك، ورميته في وجهك. لم أتلقّفك حين وقعتِ، بل مضيتُ أُمطرك بكلّ ما وقع بين يديّ: فنجاني، وأقلامي، وبعضاً من أحلامي. لم أعجب أنّ قطرتين داميتين قد شقّتا وجهك الصّارخ بتجاعيد اللّوم؛ فأحلامي كانت كتلةً من الإسمنت، وقد قصدتُ أن تسحقك سحقاً. تعرفين؟ لم أعجب، ولم أبالِ البتّة... قلّما همّني سواء رحلتِ إلى الجحيم، أم احترقتِ بلهيب غيري من المحزونين. ولتفهمي كلامي على سجيّتك: فالطّريق بيني وبين أحزانك حقٌّ مهضوم، وصوتٌ مكتوم، وجسرٌ نسفتُهُ عن سابق تصوّرٍ وتصميمٍ وجنون.
أعرف أنّك الآن لا تسمعينني، وأنّ صوتي ما زال بحاجةٍ إلى الكثير كي يشقّ دربه، عائداً إليك. أعرف أنّني تهت عن الطّريق، وجرفتني الرّمال المتحرّكة، ولفظتني الأمواج على شواطىء أخرى؛ وأنّني اقترفت من الأخطاء ما بتّ عاجزةً عن كتمانه؛ وأنّني بقيت زمناً أفتّش عن حماقاتي السّابقة فوق جسورٍ وهميّة... لكن لا أفهم أن يجرّدني غياب الحزن من إنسانيّتي. لا أفهم أن أحترف الخمشَ على جداراتٍ من لحمٍ ودم، ولا أن أنبش أظافري في تماثيلَ طينيّة لم تكتمل بعد. لا أفهم أن أُسدل عليّ هذا الرّداء الخشن. لا أفهم كيف أنّني، منذ رحيلك، أعجز عن النّظر إلى تفاصيل جرائمي في المرآة.
لا... لا أنتظرك. فأنا امرأةٌ لا تنتظر. لا تجيد إيقاد الشّموع في الليل، ولا مضاجعة فلول التّرقب والانكسار. لا تجيد التّبرير، أو طلب السّماح، أو لغة الاعتذارات. وقد عرفتُ، حين أوليتِني ظهرك، أنّني لن أبصر انعكاساتي ثانيةً على واجهات المحالّ، وفوق نوافذ السيّارات. عرفتُ أنّني سأَضيع لاحقاً، وأمارس في حقّ نفسي تشويهاً أبديّاً. عرفتُ أشياءَ كثيرة في فترات جهلي المشؤومة تلك. لكنّ ما أردته... كلّ ما أردته... هو لحظةٌ واحدةٌ فارغةٌ منكِ... لحظةٌ لا أسقط فيها، منكسرةً، في أفيون أسراري. |
Nice!