كنت أعرف يوم رأيتك للمرّة الأخيرة أنّها ستكون المرّة الأخيرة. لا تسألني كيف. عرفت وحسب. ذلك اليوم، بعد أن غادرتُ الغرفة حيث تقبع منذ بضعة أشهر، ووقفت جامدةً أنتظر المصعد بين أروقة مستشفى أمقت رائحته، هرعت عائدةً إليك. احتضنتك بصمتٍ لا أكثر. احتضنتك ومشيت. اعتدت ألا أنتظر منك كلاماً. كانت الصّرخة في عينيك بديلاً عن كلماتٍ لطالما ولدت مَيْتةً على لسانك. كأنّك كنتَ تتوسّل إليّ، ساعتذاك، أن أبقى بعد. لحظاتٍ بعد... ومهما حاولتُ، أبداً لا أنسى منظر عينيك عند الوداع.
عامان كانا قد مضيا، ونحن نحطّ رحالنا كلّ مرّة في مستشفى جديد. عامان وأنا لا أعلم هل الإنسان المحبوس داخل جسدك المريض يعرفني، أو يذكرني، أو حتّى يذكر ما قد يشبه وجهي في مناماته. عامان طويلان، قاتلان، يطبقان على الحناجر، يفتّتان العظام، ببطءٍ، بصبرٍ، بتلذّذ. عامان انصرم حبلهما في مثل هذا اليوم، قبل ثلاث عشرة سنة.
منذ ذلك اليوم في حياتي، كم من حجرٍ قلبتُ، وكم من صخرةٍ كسّرتُ، وكم من جدارٍ وقفتُ في ظلّه هنيهةً ثمّ أوليته ظهري ومضيتُ... منذ ذلك اليوم، صدقاً، كم من طريقٍ سلكتُ، لأهرب منك أنت!
هذه السّنة، أنا عنك في غربة. كأنّ ذلك اليوم لم يكن يوماً. كأنّه لم ينحت حياتي على النّحو الذي هي عليه. كأنّه لم يجبلني بترابه الدّامي، ولم ينفث في وجهي بعضاً من غباره المصفرّ. كأنّني لم أحمله في صدري جرحاً موبوءاًَ في كلّ لحظة، ولم ينسني الزّمن على عتبته، ثمّ يمضي في سبيله نحو حياةٍ استمرّت، معي أو بدوني. سيّان... فقد استمرّت دونك، بالتّأكيد.
هذه السّنة، قلبي على نفسي التي ستخمد آخر ومضاتها، يومَ تزول ذكراك الأخيرة من زواياها.. يومَ أفيق فجأةً، فأمسي امرأةً أخرى، ويمسي لون عينيّ مسروقاً من امرأةٍ أخرى، وضحكتي ضحكةً هازئة، ووجهي لا يشبه وجهك قطّ.
ماذا يمكن أن يُقال عن يومٍ، مضى منذ ثلاث عشرة سنة؟ ماذا يُقال كي لا يُبتلى المرء بطاعون النّسيان؟ لم يكونوا بحاجةٍ إلى إعلامي برحيلك، من حملوا إليّ الخبر. حين فتحتُ لهم الباب، حاولت أن أطيل مدّة بقائك رغماً عنهم: لم أترك لهم مجالاً للكلام. عدت سريعاً إلى مها، لنستأنف دروس امتحانات الغد. عدت إليها لأسرق ضحكاتٍ مشروعة أخيرة. عدت لأختم معها ما تبقى من عهد طفلة. لأتظاهر بالشّجاعة. لأبني حاجزاً منيعاً في وجه السّيل المتدفق. لأسرّ لنفسي أنّ عالمي لم يتغيّر للتوّ. لأهرب من النّظرات الحافلة بالشّفقة والابتسامات ذات الحنان الذي لا يُطاق... فلماذا إذاً أجشهتُ بالبكاء ساعة أخبروني عنك؟
أتعرف؟ أحياناً، حين يجفو منّي الرّقاد، أبقى ساهرةً على صوت فكرةٍ واحدة: أنّني، أثناء ذانك العامين، قد خلّفتك في إحدى الغرف، وتمنّيت لو أهرب من هذه الأجواء الكئيبة، وألعب مع أترابي كما كنت أفعل في الماضي. وتقضّ لي هذه الأمنية، وحدها، مضجعي اللّيل بطوله.
لا أحبّ أن أذكر هذه الصّورة. أمقتها، وأمقت نفسي معها. لكنّ عينيك يا أبي، أبداً لا أستطيع نسيانهما...
|
Eve... I can't describe to you what reading this has made me feel. I wish you never had to write it, I wish I never read it.
If... no not if. When. When the time comes for me as well, I hope you would be no farther than a phone call away.
God damn it Eve.
Thank you.