لنا مع "الوضع" حكاية توازنيّة غريبة. فإذا ما اجتاحنا اليأس والكآبة، فلأنّ "الوضع" تعبان ومتردٍّ؛ وإذا انفرجت أساريرنا بعض الشّيء، فلأنّ "الوضع" هادىء وعلى ما يرام. ننام حين يسمح لنا الوضع بالنّوم، ونصحو مع صحوته. مرآتنا هو، وفي عينيه نبصر عمق المرض المتفشّي في عروقنا. فمن هو هذا الوضع الذي يتحدّثون عنه كثيراً هذه الأيّام، وترجّع الشّاشات كلّها صدى صوته: "الوضع... الوضع... الوضع..."؟
هذه الأيّام، على مشارف السّنة الجديدة، الوضع في لبنان مخلوقٌ متعدّد العاهات، ينتظر لحظة الاستيقاظ من كبوته: عاهة استقالة الوزراء الشّيعة من الحكومة، وعاهة ملفّ بنك المدينة والاعتداء على القاضي ناظم الخوري، وعاهة صواريخ الكاتيوشا الذي دخلت على الخطّ فجأةً، من دون سابق إنذار، والأعياد التي لا تشبه للأعياد لوناً، والحقيقة التي تعبت من تحيّن لحظة الإعلان المرجوّة عن نفسها، ووو... تكاد تنسينا كلّ هذه العاهات أنّ هذه السّنة قد حملت إلينا فرحة الاستقلال، ولو بالطّريقة الصّعبة.
يكثر الحديث هذه الأيّام عن "العقدة الشّيعيّة"، أو "الخوف من الشّيعة"، في إشارةٍ إلى سباحة ممثّلي هذه الطّائفة عكس التيّار. ورغبةً في مزيدٍ من الدّقة، فلعلّه من الأجدر استبدال كلمة الشّيعة في هذا السياق، بأمل وحزب الله، عوضاً عن التّسليم جدلاً بأنّ كلّ شيعيّ يتبع تلقائيّاً أحد هذين الحزبين. وسواء كان الخوف خوفاً من حيازتهم على السّلاح أو من عددهم (ممّا يجعله خوفاً غير مبرّر في هذه الحالة)، فإنّه يقف حاجزاً في وجه أيّ لغةٍ حواريّة كفيلة بأن ترطّب الأجواء، وتطرح حلاً يرضي جميع الأطراف. وبعد، فالمشكلة في لبنان هي مشكلة انعدام لغة الحوار؛ أو جهلٍ لأسس الحوار السّليم الذي ينأى عن محاولة هدم الآخر وتخوينه، والتّجريح بآرائه، والتّعريض بموقفه، ويتّجه عوضاً عن ذلك نحو منطلقٍ للفكر والإصغاء الفاعل. من هنا، فإنّ الخطوة الأساسيّة اللازمة لإرساء مبادىء الحوار السّليم هي الاعتراف أنّ الطّوائف في لبنان هي مصدر غنىً لا تخريب، وأنّ ضعف الواحدة منها يؤثّر لا محالة على المجموعة المتبقيّة، وأنّه بالرّغم من خاصّية كلّ طائفة بحدّ ذاتها، إلا أنّ الأمور المشتركة لا بدّ منها عند التّعريف بمفهوم المواطنية؛ فكيف يعقل، على سبيل المثال، أن ينظر أحد الأطراف إلى حزب الله على أنّه بطلٌ مخلّص، فيما يعتبره طرفٌ آخر منظّمةً إرهابيّة؟ وكيف يعقل أن يصنّف فريق بشير الجميّل مثلاً في خانة الشّهداء، فيما يعتبر فريقٌ آخر أنّ يديه ملوّثة بدماء ضحايا الحرب؟ هناك إذاً اختلافٌ جوهريّ في تحديد طريقة نظر اللّبنانيّ، اللّبنانيّ دون أيّة نعوتٍ أخرى، إلى قضاياه التي يفترض أن تكون مشتركة.
وبالعودة إلى حزب الله، فلا شكّ في أنّه لا يتلقّى أمر نزع سلاحه برحابة صدر، ومن غير المعقول أن يبادر إلى تنفيذ ذلك بين ليلةٍ وضحاها. إزاء ذلك، عوضاً عن سياسة المدّ والجزر، والأخذ والرّد بين الأطراف كافة، لمَ لا يصبّ اللّبنانيّون اهتمامهم، في سبيل تحقيق هذا الأمر، على تقرير هويّة مزارع شبعا النّهائيّة في مجلس الأمن، بالأدلة والوثائق؛ وهي قضيّة نامت على الرّفوف منذ زمن؟ ولمَ لا يُطمئن الجيشُ الشّعب إلى قدرته على ضبط الشّؤون الأمنيّة في القرى الجنوبيّة بعد تنفيذ القرار 1559؟ ولمَ لا يتمّ تناول قضيّة سلاح المخيّمات، داخلها وخارجها، بمزيدٍ من العناية كذلك؟ قد يساهم كلّ ذلك في تطبيق القرار المذكور، عوضاً عن الاكتفاء "بحوار الطّرشان" الذي تطغى عليه لغة العنف والتّخوين. وبعد، فما يغفل البعض عن إدراكه هو أنّ متظاهري كلّ من 8 آذار و14 آذار هم لبنانيّون جميعاً، لكن أصحاب اتّجاهاتٍ مختلفة: فبعضهم ثار ضدّ التّدخل السّوري، وبعضهم الآخر ضدّ التّدخل الأميركيّ؛ ولكلّ منهم نظريّته الخاصّة في هذا الموضوع حول الأزمة التي تتخبّط فيها بلادهم والعناصر الكامنة وراء ذلك. لكن مهما يكن من أمر، فلا شكّ في أنّ استمرار حزب الله وأمل في تهديدهما بالانسحاب من الحكومة هو استمرارٌ لسياسة الأفق المسدود وتعطيلٌ للغة الحوار. وما زال اللّبنانيون في انتظار شرحٍ يجلي الغموض عن موقف حزب الله، ويؤكّد على أنّه ليس ورقة ضاغطة بيد قوّةٍ خارجيّة، يُمكن أن تُمارَس على لبنان "كل ما دق الكوز بالجرّة".
أخيراً، من الملفّات الأخيرة النّائمة على الرّفوف أيضاً هو ملفّ النّشاط الاقتصاديّ المعلّق، وانحسار توقّعات النّمو، وتقلّص حجم الإنتاج، بما يتضمنه ذلك من الاستدانة، والاتّكال على الخارج، وتصدير خيرة الشّباب والأدمغة، وبيع الثّروات الوطنيّة... وفقاً لوزارة الماليّة، بفضل فائض السيولة النّاتج عن أسعار النّفط المرتفعة في المنطقة، الفرصة سانحةٌ حاليّاً أمام لبنان للخروج من دائرة الخطر الاقتصادي، والتّأسيس لاقتصاد جديد يكون قادراً على تحقيق ميزاتٍ أعلى، واستكمال عمليّة التّصحيح بتخفيف العبء الاقتصاديّ. فلنأمل إذاً أن يسفر هذا المشروع عن نتيجةٍ إيجابيّة على المدى القريب أو البعيد، ويباشر لبنان باستعادة عافيته مع بداية العام الجديد، أو على الأقل أن تتجلّى بوادر الاستعداد لذلك.
فأنا، في الواقع، ما أزال أذكر الصّدمة التي اكتنفتنا، ساعةَ طرح علينا أستاذ مادّة "قضايا السّاعة"، في الجامعة، سؤالاً قبل خمس سنواتٍ: "أتعتقدون أنّه، خلال خمسين عامّاً، سيكون لدولةٍ تُدعى لبنان وجودٌ على الخارطة الدّولية؟" وأنا،في كلّ مرّة، مصرّةٌ على الموافقة بالإيجاب. |
احسدك على نظرتك التفاؤلية.. لي عودة لمناقشتك فيما كتبت.. ( بس يسمح الوقت لأن الانترنت هون زفت!) وان كنت أوافق مك على 70% مما قلتيه.. انتظريني
I'll be back!