"عندما يعطي الأب ابنه، يفرح الأب والابن معاً. وعندما يعطي الابن أباه، يبكي الاثنان." (بلاديه)
لم نتكلّم منذ وقتٍ طويلٍ، أنا وأنت. أنا مشغولة. شغلتني الحياة، عنك، وعن أيّامنا، وحتّى عن نفسي. أفتّش عن شيءٍ ما. ربّما هو بعضٌ منك، ما زال عابقاً فوق جدران أنفاسي اللاهثة. ربّما صوتك، الذي لشدّة ما كان مألوفاً، ضيّعت جوهر نغمته. أو ربّما أفتّش عن طريقٍ، بقدر ما ترميني بعيداً، تقرّبني منك؛ وبقدر ما تحملني عالياً، تسيّرني، بكلّ خطوةٍ، إليك. ما زلت أترك لك الفكرة الأخيرة، عندما تهمد الأصوات. ما زلت... قبل أن يهزمني النّوم ليلاً، على وسادتي، أطرح فكرةً أخيرة من أجلك. باليةً أمست الفكرة. أبلاها مرور السّنوات الثلاث عشرة تلك، ورتابة الكلام الذي لم يتغيّر ليلةً. أبلاها الصّوت الذي يئس من صداه الكئيب، وأمله المنتحر على عتبة الانتظار. باتت جزءاً متأصّلاً منّي... صلاةً أخرى... حياةً ثانية... بوّابةً إلى عالمٍ شاذ وفوضويّ.
ومع ذلك، لم نتكلّم منذ وقتٍ طويل... وهل من شيءٍ يقال؟ وهل من شيءٍ يستحقّ أن نقف عنده؟ لا أدري حتّى لمَ أكتب ما أكتبه الآن. فحين أفكّر فيك، أعود تلك الطّفلة الحافل قلبها بمشاعر الذّنب والنّدم التي لا تحتمل. تعود إليّ كلّ تلك العقد التي حسبتني تخلّصت منها، وكلّ صفاتك التي كانت تزعجني، لكنّني، رغم ذلك، أكرّرها اليوم خطوةً بخطوة. أبتسم. لأنّ كلّ ما مرّ معك، كلّ أحداثك وانفعالاتك وكبريائك واستبدادك وحنانك وعواطفك وأخطائك وحكمك... كلّها جعلتني على ما أنا عليه.. نحتت شخصيّتي كما هي اليوم. حتّى رحيلك نفسه، والظّروف التي رحلت فيها، والطرّيقة، وتبدّلك التّام، ونظراتك الأخيرة، ووجهك الذي لم يعد يعرفني، وغرف الانتظار في المستشفيات، كلّها جبلتني على الصّورة التي تراني فيها اليوم. جعلتَني أكبر قبل الأوان. سرقتَ منّي طفولتي وسذاجتي التي نضجت في غير موسمها. زرعت فيّ شعوراً بالنّدم، لأنّك رحلتَ ولم أعطكَ، ولم أعرفك، ولم أمنعك. أمطرتَني بحبالٍ من الذّنب على كلّ لحظةٍ تمنّيتُ فيها أن ينتهي ذلك اللّيل، وأنا أشعر أنّ نهايته تعني، لا محالة، اختفاءك.
كتبتَ لي مرّةً في إحدى رسائلك التي اكتشفتها صدفةً، قبل الأوان: "أخاطبكِ وأنا تحت التّراب... أنت الآن وفي الثانية عشرة، أكلّمك كلام الأب لابنته التي يعتبرها رمز البيت...". كنت صغيرةً يومها. لم أفهم. أقنعت نفسي أنّ الكلام من تحت التّراب لا بدّ له ألف معنى ومعنى آخر. ثمّ أخذت عهداً على نفسي ألا أجعلك تغادر البيت، من دوني، طالما أنّ عمري اثنتا عشرة سنة. لم أخبرك شيئاً. لم أنبس ببنت شفة. لم أقل لك إنّني اكتشفت مخبأك، ولا إنّني قرأت كلّ رسائل وداعك. قلت: العهد يكفي. لكنّك تغيّرتَ بعد ذلك بقليل، وغيّرت معك كلّ شيء. حين رحلتَ أخيراً، كنت أنا في الثانية عشرة.
لا أدري لماذا لم نتكلّم قبل اليوم. فموسم عيد الآباء مرّ أكثر من عشر مرّات، وذكراك السّنويّة أتناساها في معظم الأوقات. لا أدري حتّى لمَ لا أكتب عنك، كما كنت أفعل. أتصدّق؟ الجميع يتحاشى سؤالي عنك؛ مع أنّني كنت لأحبّ أن أحدّثهم عن شخصيّتك وأفعالك وشكلك... المشكلة أنّني بدأت أنسى. أسارع إلى التكمّش ببعض الذّكريات، حتّى يتسنّى لي، على الأقل، أن أخبر أولادي، في حال رزقت بأولادٍ، عن جدّهم. أودّ أن أسمّي أحدهم تيمّناً بك. أودّ لو أصرخ للعالم بأسره أنّك، أنت، كنت أبي أنا. وأخاف ألا يبالي أحد بصراخي. تراني أحاول أن أنفّذ وصيّتك الأخيرة: "أن أكون فرداً فعّالاً في المجتمع، وأبني البيت، وأكون الأفضل." أخشى أحياناً أن تكون قد حمّلتني فوق طاقتي، ولكنّني أحاول.
حين يخبرني أحد الأقارب البعيدين كم أشبهك، يبدو عليّ من سرور الأطفال ما يربكني، أتصدّق؟
|
رائعة رائعة رائعة
لعبت على اوتار قلبي باحتراف، احيانا يتردد بداخلي نفس السؤال الاخير
أتصدقين؟