في الآونة الأخيرة، اجتاحت بعض المدونات ظاهرةٌ غريبة، تستحقّ أن يقف المرء عندها، لا لشيءٍ إلا لدلالتها على الحالة التي تجنح نحوها شريحةٌ كبيرة من مجتمعنا المحليّ. يُقصد بذلك ظاهرة التّعليقات المجهولة التي يرى فيها البعض منفساً يفجّر من خلاله كلّ ما في جعبته من مكبوتاتٍ دفينة، ويا لها من مكبوتات! (تجدر الإشارة في البداية إلى أنّني لا أتطرق إلى من يعتمد التّعليقات المجهولة لمجرّد أنّه لا يملك اسم مستخدم وكلمة سرّ، بل أعني أولئك الذين يتوسّلونها تحقيقاً لأغراضٍ أخرى سيأتي الذّكر عليها لاحقاً. ومنهم أيضاً أشخاصٌ غير مجهولين، ولكنّ اسمهم لا يقدّم ولا يؤخّر، وبالتّالي اقتضى إدراجهم في الخانة التي سأتكلّم عنها تالياً.)
من هم أصحاب التّعليقات المجهولة وأمثالهم؟ هم أشخاصٌ يحتمون بستار كي يتمكّنوا من إطلاق الأحكام التي ما كانوا ليطلقونها عادةً في العلن، خوفاً من نظرات المجتمع والقيود السّلوكيّة. يتعرّون في الخفاء من كسوة التّقاليد التي تلجم جماح غضبهم عادةً، ويطلقون العنان لكلماتهم كيفما اتّفق، في ظلّ افتقارٍ واضح للحجج المنطقيّة، ورفضٍ تام لأيّ جدلٍ قائم على الإصغاء الفاعل والمحاورة النّاضجة. يسكنهم دائماً هاجس الإدلاء بالكلمة الأخيرة. فإذا ملّوا منك، يستطيعون الاختفاء بكلّ سهولة، أو يكيلون إليك بالشّتائم، لأنّ العائق الاجتماعيّ بالنّسبة إليهم غير موجود. ينسون، أو بالأحرى يتناسون، أنّ القانون الأوّل في أيّ محاورةٍ اعتياديّة هو أن يكون كلّ طرفٍ على علمٍ بخلفيّة الطّرف الآخر، وبمصادره التي يفترض أن تكون موثوقاً بها. وبعد، فالاختفاء وراء ستار الأقنعة المجهولة كفيلٌ، وحده، بإضعاف الحجج التي يدلي بها صاحب هذه التّعليقات؛ فلو كان واثقاً من كلامه، أكان تردّد ولو للحظةٍ في الإشهار عن نفسه؟
دعوني أقدّم لكم نماذج عمّا أتكلّم عنه. أنظروا هنا وهنا، وأيضاً هنا وهنا، على سبيل المثال لا الحصر طبعاً. المواضيع جميعها سياسيّة في هذه الأمثلة. واللّبنانيّون لا يحبّون شيئاً قدر حبّهم التّعليق على المواضيع السياسيّة. فالسياسة تجري في دمنا، ونحن جميعاً محلّلون لوحلنا السياسيّ، من الدّرجة الأولى. لكنّ المشكلة لا تكمن هنا. المشكلة الحقيقيّة أنّ شخصيّة "الزّعيم السياسيّ" ما زالت تستحوذ على أذهان البعض. وهؤلاء تربّوا على فكرة اتّباعه، والدّفاع عنه، والالتزام بمعتقادته، دونما التّفكير، أحياناً، في السّبب الكامن وراء ذلك. في هذا السياق، أذكر المقابلات التّلفزيونيّة التي تُجرى مع النّاخبين بعد الانتخاب:
الصّحافيّ: هل انتخبت لائحة المرشّحين كلّها؟ المواطن: نعم. الصّحافيّ: ألم تشطّب ولو اسماً؟ لماذا؟ المواطن: هيك السيّد/الإستاذ/الجنرال (إلخ) بدّو! ولكن أين رأيك أنت؟ مبادؤك ومعتقداتك الخاصّة، أين هي؟ انطمست في شخصيّة الزّعيم أم ما زال رمقٌ منها حيّاً فيك؟ المشكلة إذاً هي في الحاجة إلى القليل من النّضوج ليس إلا. ولكن، بالعودة إلى الفكرة الأساسيّة...
ما هي اللغة التي يستخدمها أصحاب التّعليقات المجهولة وأمثالهم؟
الاستخفاف، والتهكّم الأسود، والعبارات الملطّخة بالابتسامات الصّفراء هي العناصر الأساسيّة التي يتسلّح بها أصحاب هذه التّعليقات. هذا لا يمنع أنّ غيرهم قد يلجأ إلى هذه الأسلحة أيضاً، لكن مفاد القول أنّهم، هم أنفسهم، ليسوا بغنى عنها. وإذا كنت تنتظر منهم بعض الأجوبة المنطقيّة أو العلميّة ليدعموا بها اتّهاماتهم، فاعلم أنّ انتظارك سيطول. فهمّهم الأوّل زرع بذور الضّعف والاستصغار في نفس محدّثهم، من دون أن يدركوا أنّ هذه الوسيلة إنّما تأتي لتعوّض ضعفهم الخاصّ. وبين الفينة والأخرى، لا يتورّعون عن بثّ الشّتائم الاعتياديّة هنا وهناك. حذار، إذا لم تشاطرهم رأيهم، ولم تسر في ركب مبادئهم التي باتت "معولمة"، فأنت ملعون ومحكوم عليك بالنّبذ. أمّا النّتيجة، فمزيجٌ غريبٌ يمكن تسميته، حسب المفهوم العلميّ الحديث، بالإرهاب الفكريّ. في هذا السياق، يورد القاموس اللّيبيراليّ التّعريفَ التّالي للإرهاب الفكري: "هو الإرهاب الممارس ضدّ حريّة الفكر وفي بعض الأحيان يستخدم القانون وبعض النّواقص فيه لإيقاع عقوبات ضدّ حامل الفكر".
إذاً يهدف هذا الإرهاب إلى إبادة الآخر فكريّاً، من خلال طرقٍ واهية ينحو بعضها نحو الاكتفاء بإدلاء رأيٍ قاطع: أوافق/لا أوافق (ودائماً ما يكون لا أوافق في مثل هذه الحالة طبعاً)، أو استخدام الجمل الرنّانة والطنّانة والصّادحة بكافة مستلزمات "الفرقة الموسيقيّة"، مع استعمال مفرداتٍ هدفها نشر جوّ عام من الإحباط، تعكس مدى التّعصّب الأعمى المتجذّر في قلوبهم. فتكتشف، بعد كلّ هذرهم، أنّ نظريّاتهم يطغى عليها الانفعال لا الفعل، والعقم لا الإنتاجيّة. وبالتّالي، في محيط ضيقهم -الواسع ظاهريّاً- هذا، تندرج أيّ محاولةٍ منك للرّد في إطار القول التّالي: "على من تتلو مزاميرك يا داود؟"
خلاصة القول أنّه، في ظلّ الرّكب السّريع للحياة من حولنا، ما زالت جهاتٌ عديدة تحاول جرّنا إلى الوراء، فتجرّب أن تفصّل لك الطّقم على مقاسها هي، وأن تطعمك أفكارها الخاصّة، وتجعلك حتّى تتنفّس من هوائها نفسه. والمشكلة أنّك لو أعرتها اهتماماً، فلن تنجح إلا في تأخير تقدّمك الخاصّ. عند ذلك، يبقى أفضل الحلول هو أن تفعل كما فعلتُ أنا: تبتسم، تهزّ رأسك بتأسّف، ثمّ توليهم ظهرك، تتركهم وراءك، وتمضي إلى الأمام.
|
سلام
يبدو العزيزة ايف بأن خفافيش الظلام منتشرون في كل مكان حتي في العالم الافتراضي للانترنيت
احدهم فتح مدونة مهمتها الوحيدة انتقاد ما يكتبه الاخرون