مع أنّني كنت في هذا المكان نفسه بالأمس فقط، إلا أنّ رائحةً مختلفة تفوح منه اليوم: رائحة الموت حين تمتزج بمشاعر الذّهول وشيءٍ من القرف. زائرون متوافدون، آلات تصوير، هواتف نقّالة، مقابلات، أشرطة صفراء... لكنّ البقعة الصّغيرة تلك بقيت ساكنة بحيث لا تعيقك من الانزواء بنفسك والتّأمّل في ما حدث.
تحتلّ السّيارة، أو آليّة القتل هذه، وسط المكان تقريباً، أو قل هو الهيكل المتبقّي منها، المغطّى بأغلفة بيضاء تحجب لونه الأصليّ والحالة التي آلت إليه. الأنظار كلّها تعانقه، تفتّش عن بصيص نورٍ في قلب معدنه المتفحّم. والخطى التي تكسّر الشّظايا الزّجاجيّة تحت الأقدام تحكي قصّة اضطرابٍ متأجّج في النّفوس. أدخل إلى المتجر المقابل، متجر نباتاتٍ عرّاه الانفجار من زجاج نوافذه. فأنظر إلى بائع الأزهار، ولا أجرؤ على الكلام. يسبقني أحد المخرجين (زياد الدّويريّ، صاحب "بيروت الغربيّة")، وفي عينيه التّساؤل نفسه. فيسرد البائع الخبر، كما سرده عشرات المرّات في ذلك اليوم على الأرجح. قال إنّ سمير قصير زبونٌ قديم. وصف كيف صدح الدّويّ واشتعلت السيارة ببطء لترمي بسمير إلى المقعد الأمامي المحاذي لمقعد السّائق. أكّد على أنّ أحداً لم يكن برفقته في السّيارة وأنّه قد أُردي في الحال. بعد قليل، تصل باقات الورود الحمراء، لتشكّل سياجاً محيطاً بالمنطقة المشؤومة بأكملها. ينسدل العلم اللّبنانيّ من الشّرفة المقابلة. إحدى المتواجدات تسألني بتأثّر عن مكانٍ سكنه، فأتتبّع بنظري خطّ الورود المؤدّي إلى مدخل البناية حيث نقف، وحيث يتّشح بعض الأشخاص بالسّواد، مطلقين لمشاعرهم العنان. أجيبها. تومىء برأسها، لكن لا يبدو أنّها تريد التكلّم هي الأخرى. رجال الأمن يطلبون منّا الابتعاد قليلاً، خوفاً من شظايا زجاجيّة ما زالت تنهمر من نوافذ المباني المحيطة. السّؤال الوحيد الذي يتردّد صداه هنا وهناك: "معقول اللي صار؟"
معقول اللي صار؟ معقول أنّ الإنسان الذي كان يملأ أروقة الجامعة نشاطاً وإشراقاً وحيويّة يخمدون شعلته بهذه البساطة؟ والابتسامة التي يتخلّلها بعض تكبّر وسحر؛ القلم النّافذ والتّحليلات النّاقدة؛ وميض العينين الذي يفشي ذكاءً وحنكة؛ معقول أنّ كلّ هذا قد انطفأ؟ معقول أنّنا لن نصادفه يسير في شوارع الأشرفيّة من جديد، ولن يطالعنا اسمه في الصّحيفة كلّ صباح جمعة، كما كان يحدث قبلاً؟ موطن الكلمة قدّم اليوم شهيده، فهل ننتظر بعد كي نبعث من أجله 14 آذار جديداً؟ ماذا؟ أم أنّ الفرق بين رجل السّياسة والصحافيّ هو الحدّ الفاصل بين الغضب العارم والاستنكارات الفانية؟ من يبقى حينئذٍ ليجمع هذه الدّماء المتدفّقة على الأرض؟
أسير مبتعدةً عن المكان. ألاحظ بمحاذاة مسرح الحادث متجراً صغيراً مغلقاً يحمل اسم: on n'est pas des anges (لسنا ملائكة). أبتسم بهزء وألتقط صورةً أخيرة. ثمّ أسير حتّى أضيع في الشّوارع الضيّقة.
تهاتفني صديقةٌ من أيّام الجامعة مساءً: "نور، تذكّرتك سريعاً. أعرف كم كنت تحبّينه."
أسكت قليلاً، ثمّ أتمكّن من القول: "ومن منّا لم يحبّه؟"
-------------------------------------
للاطّلاع على آخر كتابات سمير قصير، إقرأ هنا |
Les mots me manquent pour décrire la rage qui bouillone en moi... La liberté d'expression a été bafouée, piétinée, assassinée. Un homme, un symbole, a été lâchement tué. Je suis révoltée, dégoûtée, horrifiée.
Les bombes peuvent tuer un combattant de la liberté mais non ses idéaux, ses espoirs, ses rêves. Ceux-là lui survivront, quand ils germeront dans la conscience des générations qui reprennent la lutte.
« Surtout, soyez toujours capables de ressentir au plus profond de votre coeur n'importe quelle injustice commise contre n'importe qui, où que ce soit dans le monde. C'est la plus belle qualité d'un révolutionnaire » - Che Guevara