المكان: المبنى حيث أسكن، في أحد شوارع بيروت الزّمان: منذ ثلاثة أيّام
ماذا حدث؟ تصحو، ترتدي ثيابك، تتوجّه للعمل، وإذا بجثّةٍ عند مدخل بنايتك! لا، ليست جريمةً شيّقة، ولا قصّة بوليسيّة مثيرة، بل تماماً ما كان سيصيبك لو كنت جاري في إحدى الشّقق العشرين!
الحيّ مكتظٌّ برجال الشّرطة، والمصوّرين، وبعض المارة الذين جرّهم فضولهم إلى زقاقنا. والشّرفات تغصّ بمستطلعي الخبر، وقد رفعوا أيديهم على أفواههم، إسكاتاً لكلماتٍ لم يتلّفظوا بها قط. تصلني الجمل تباعاً من مكاني القريب، عند نافذة الطّابق الثّاني: "خادمة من الجنسية السّريلنكيّة... قفزت من الطّابق العاشر... انتحرت... لم تنتحر... بقعة دم على الأرض... لا، بقعة عصير... شراشف... ملاءات... حاجيّات..." أخيراً، اتّضح أنّ المرأة كانت تفكّر في الهروب. بعض المصادر تقول إنّه لم يمض يومان على وجودها في منزل مخدومها. تقول أيضاً إنّها جمعت حاجيّاتها، وهبطت بواسطة ملاءاتٍ معقودة. أمّا كيف كانت تحسب أنّها ستهبط سالمة، فهذا ما لم تجب عنه "المصادر"...
لم أطل النّظر إليها. لا أدري أيّ فكرةٍ جعلتني أخاف من خدش حيائها، هي المستلقية بسكون على الأرض. أو ربّما من قلّة الاحترام أن تتأمّل إنساناً، فيما يكون في أشدّ حالاته عرياً: فيما جسده مجرّد من كساء الرّوح. على الأرض، أشكالٌ متناثرة: رذاذ شعر، دبابيس، قميص أبيض... الجثّة رُفعت بعد حين، لكنّ الأشكال بقيت، تمشّطها العين غداة كلّ رحلةٍ خارج المبنى وإليه، غداة كلّ حجّ يؤدّيه أهالي الحيّ إلى مزارها. الأشكال العاديّة، الغريبة من شدّة بساطتها، بقيت تهزأ بنا.
لا أدري في أيّ نوعٍ من الهروب كانت تفكّر عندما قفزت... نحو أيّ ملاذ كانت تأمل أن ينقلها البساط المسافر... أهو الهروب الذي نفتعله يوميّاً في حياتنا، الذي يقضّ كلّ ليلةٍ مضاجعنا؟ أهو الهروب من عوالمنا الدّاخليّة، أم التوغل أكثر فأكثر في متاهاتها العميقة؟ هروبٌ من ضجيج الأفكار البكماء أم من صمتها الثّاقب للآذان؟ أجهل لمَ أكثر من الأسئلة العديمة الجدوى. لقد هربَت وكفى.
عندما رأيتها، لا أدري لمَ قادتني أفكاري الأوليّة إلى كابوس لطالما زارني في لياليّ: أرى نفسي على شرفة منزلي القديم، عند الطّابق الثّالث، وأنا أسعى إلى الهروب من مجهولين اقتحموا بيتي، ولا مفرّ أمامي إلا القفز. لا أذكر أنّني نجحت في القفز، أو وصلت سليمة ولو لمرّة. أحياناً، كنت أبقى مشلولةً وأنا أجهل كيف أرشد أسرتي إلى القفز بسلامة أيضاً. وأحياناً أخرى، كنت أهبط سلالمنا المعتمة طيراناً إلى ما لا نهاية. كابوسٌ دائماً ما يصوّرني عند حافةٍ، والهاوية من تحتي سحيقة. كابوسٌ دائماً ما ينتهي باستيقاظي، مرتاعة...
غريب... عندما رأيتها، أوّل ما خطر في بالي كانت صرخة إعجاب: لقد قفزت! |
You were right Eve, we DO need sadness to write. And you did so beautifully...
I must admit I would've left that same scene with a lot on my mind as well, but different thoughts.
I would have imagined what she could she have done to make it work? Why was she so desperate to leave? Did she die instantly or did she suffer? Why does this happen so often? Will the authorities actually do anything besides clearing the mess? Will her family know? Will they care?
I bet it won't be long before her employers find a replacement, and her story will never be mentioned again.