mysteriouseve
هنا، ألوذ في هدأة هذا الليل براحةٍ من قيظ النّهار. هنا، أحوك في الفكر خواطر، وأولّد على الشّفة بنات. هنا، ابتسامات حنين ترجّع صدى طفولةٍ نائية، وقصص حبّ طواها الزّمن. هنا، حلمٌ بغدٍ أجمل
حرفة السّعادة
لطالما اعتبرت أنّ رحيل الكاتب عن الورقة والقلم علامةٌ على سعادته وصفاء ذهنه، وأنّ إغلاق المدوّنين، أمثالي، لأبواب مدوّناتهم لمدعاةٌ إلى التّهليل والفرح. فغياب الأوّل قد يوحي أنّه وجد أخيراً السّعادة التي تعجز كلماته عن وصفها؛ وانسحاب الآخرين قد نعلّله بإغلاقهم بئر أسرارهم، وتنسّمهم الأريج الطّبيعيّ لزهرةٍ لا تختبىء في محيط شاشاتهم، ولا تركض أصابعُهم وراءها، فوق لوحة المفاتيح، بدون جدوى.

لكن لعلّ صنّاع الكتابة مخلوقاتٌ مضطربة نفسيّاً. تحمل زادها من كآبةٍ ومخاوف وهموم، وتجوب بحار البشر هائمةً، بحثاً عن أيّة ورقةٍ بيضاء تلفظ عليها منابت أحشائها. وكلّما مرّ الوقت، وضَنِيَ البحث، تزداد النّفس هلوسةً، ويكثر التّلفت ذات اليمين وذات اليسار، كمدمنٍ ينشد ضالّته. وكمدمنٍ أيضاً تجرّه رغباته إلى القتل، يقتل الكاتب أيّ شيءٍ، أيّ شيءٍ يعترض طريقه، إذا لم يسعفه الحظّ بتشويه ملامح الصّفحة البيضاء. لكن في معظم الأحيان، وبحكم العادات والقوانين، وبحكم تفاهات المكبوتات، يضطر للانسحاب إلى داخل نفسه، والاستسلام للقتل الذّاتيّ. حتّى إذا ما مرّ العمر، وبقيت الصّفحات برّاً عصيّاً، وبقي الإلهام طيفاً بعيداً، ينزوي الكاتب في غرفةٍ، ويدير القفل على نفسه مرّتين. وبحبال خيبته، يجده النّاس مشنوقاً في اليوم التّالي.

ماذا إذاً؟ أغيابه سعادةٌ أم انهزام؟ أيغمّس ريشته بمداد الحزن لينتشي بسكرة نتاجه الجديد، أم يخوض عباب الأمل ليعاكسه التيار وترميه الأمواج على شاطىء الخيبة؟ وبعد، هل الكلمة إلا امرأة لعوب، تدنو منه تارةً، لتعود فتضنيه بالهجر طوراً؟ فإذا ما نجح في جرّها إلى سريره، تراه يحبسها في مخدعه، ليكتشف أنّها أرضٌ وطئها كثيرون غيره قبلاً. حينئذٍ، يحاول أن يستملكها بطريقةٍ من الطّرق، بأساليب ملتوية لم يقدم عليها أحدٌ غيره. يحاول أن يمعن فيها تخريباً، ويردّها الأرض البور التي لم تلوّثها رائحة المدينة بعد. يحاول، في لحظة وهمٍ، أن يُلبسها قناع الخفر الكاذب. أمّا الكلمة، فتشعر بكلّ الاضطراب الذي يجلبه طوعاً على نفسه، ذلك المجنون بحبّها. لكنّها تهزّ رأسها بشفقة، وتمضي.

عند أبواب جنّة السّعادة، يقف الكاتب إزاء الملاك الحاجب ويستأذنه في الدّخول. ينظر هذا الأخير إلى دفتره، يمرّ على أسماء النّزلاء، يقلّب الصّفحات. ثمّ يرفع نظره إلى الزّائر من جديد، ويعود إلى تقليب الصّفحات بتمعّن. أخيراً، يغلق الكتاب، ويهزّ رأسه نفياً: "لا مكان لك بيننا!" الكاتب يعترض.. يحاول أن يشرح: "أنا أولى بالدّخول من غيري. فأنا الذي مهما حاولت أن أكتب، يتنسّم النّاس في كلماتي الحزن. ومهما حاولت أن أشرح عن سعادتي، يبحثون هم عن الدّمعة الكامنة خلفها. جعلوني أحترف الكآبة، وأتّخذ السّوداويّة لي صنعةً. وكلّما طالعوا سطورها، طالبوني بالمزيد من عذاباتها وتأوّهاتها. أنا الذي إذا استغرقت في الضّحك، سمعوا في صوتي نشيجاً؛ وإذا تبيّنوا البِشر في وجهي، أرادوني هائماً في أودية الأحزان، أو تخيّلوني أتقلّب على فراشٍ من الجمر. دعني أدخل بالله عليك. وصدّقني، لست بحزينٍ، لست بحزين!!"

ينظر إليه الملاك لبرهةٍ. وما تلبث ملامح الشّك أن تبان على طيفه الأبيض. يسكت. يطول سكوته حتّى يخال المرء أنّه لن يتكلّم أبداً. ثمّ، شيئاً فشيئاً، يلوح طرف ابتسامةٍ على ثغره، سرعان ما تستحيل بسمةً عريضة، فقهقهةً بملء الشّدقين: "أحسنت! كدت تقنعني للوهلة الأولى!"

عندئذٍ، لا يملك الكاتب إلا أن يغادر وهو يجرجر وراءه ذيول الخيبة. من ورائه، ما زالت شهقات الملاك تتناهى إليه وهو يقول: "كاتب وسعيد؟! سيسرّ ملاك الحزن بهذه النّكتة الجديدة!"
8 Comments:
  • At ١٥/٥/٠٥ ٤:١٣ ص, Blogger Muhammad Aladdin said…

    حبيت القطعة دي جدا--و انتي عارفة اني بحب كتابتك يا إيف عامة--و لكن القطعة دي بتتكلم عن حاجة اصيلة بالنسبة لي: أن تكون كاتباً
    انا كاتب محترف من 12 سنة، قبضت أول فلوس عن كتابتي و انا عندي 13 سنة.. الكتابة هي حياتي الحقيقية.. مش عارف هو الحزين بيبقي حاسس انه حزين قوي يعني فعلا و لا لأ.. تعرفي يا إيف؟ دايما كنت باسخر من فكرة التعيس أوي دي.. مش عارف.. بحس انها كاريكاتير.. سواء في اظهار ده للناس (ده بارانويا اصلي مع مكونات مازوخي) أو حتي بالشعور بده فترة طويلة.. أكيد سايكو.. مش طبيعي.. و بالتالي حزنه ما ينفعش نقيسه علي مقياس "حزن الناس الطبيعيين"..يعني انا بحس ان الحزن ده انت ما بتحسوش علي طول.. اهو بيستخبي جواك و خلاص.. مش انساني انك تفضل تحس بيه علي طول.. مش طبيعي.. يعني.. بتيجي لحظة حد يقولك: ايه بصة الحزن اللي في عينك دي؟
    برضه مش عارف: إذا كنا لابد من كوننا حزانى و لا لأ.. مش عارف.. يعني انت قولتي هنا أن الكائن السعيد ما بيكتبش.. طبعا مفهوم السعادة نسبي.. بس خلينا نقول : المرتاح؟ بيتهيألي فيه ناس كتير مرتاحين و بتكتب كويس جداً..يعني الحزن بيضيف لخبرتك الشعورية و الحياتية كبي آدم.. بس مش شرط تكون فعلا "حزين" علشان تكتب، أو علشان "تكتب كويس".. أنا عن نفسي باضحك كتير، بس كتابتي هي محاولة لأعادة تكوين الحياة في صورة الآله.. الدور اللي انا بحبه اكتر من غيره.. جوه في اوضتي الصغيرة بحدد مصاير شخصياتي.. بكتب تفاصيلهم و بقدر عقاباتهم و عطاياهم
    أنا مرة كتبت أن حياتي هي كتابتي.. مش حياتي الحقيقية.. أنا بحس أني فعلا فورم تاني من الوجود لما اكتب.. حد ما بيبقاش عايز يدخل الحمام.. أو يجوع.. أو يعوز ست.. فورم تاني--صيغة تانية--من الوجود اعظم و ارقي من الانسان اللي انا عارفه
    علشان كده--تقريبا--أنا بكتب
    مش عايز اطول عليكي و علي اي حد بيقرا دلوقت، خصوصا أن محدش طلب شهادتي التاريخية هنا.. فحقول بس في الأخر:
    اكتب لأسعد اصدقائي
    -جابرييل جارسيا ماركيز
    بينما بيقول فوكنر--ابوه الروحي:
    اكتب لأقتل احبابي

    متشكر علي البوست ده يا إيف

    علاء


    ملحوظة: شفتي بقي انك سيريال كيلر؟
    :P

     
  • At ١٥/٥/٠٥ ٨:١٥ م, Blogger Eve said…

    حتّى عندما تقرأ كتاباته الحزينة، فما أدراك أنّه حزين؟ يمكن تكون هيدي لوازم الشّغل، مش أكتر. وشغله هو الخيال، هو خلق عالم وهمي تاني، متل يلي كنت عم تحكي عنه. ومتل الممثل كمان، شغلته هي الكذب. يعني يزين شوي هالمشاعر يلي بيحسها، لأنه لو كتبها متل ما هي فعلاً، حتكون عاديّة جداً وما حدا حيهتمّ. مثلاً، انا يعتبر حالي إنسانة "سعيدة" (إذا كان مفهوم السّعادة موجود أصلاً)، بس لمّا إقرأ يلي كتبته بقول "أفّ، شو مغمّة، إنّو بشو كنت عم فكّر وقتها؟" (على فكرة، مش عم صنّف حالي إني كاتبة، بس مش هون الموضوع). عم برسم صورة معيّنة عني قدام يلي عم يقروني؟ يمكن. بس متل ما إنت قلت كمان، أوقات الحزن ما ببيّن عالوجوه، بس بيكون مخبّا بنظرات العيون من جوّه. يعني نحنا ما منشوفه؛ إنّما يلي عم بيتطلعوا فينا هني يلي بشوفوه.

    كمان سريال كيلر؟ ليه، شايفني كم قتيل روّحت؟ :-)

     
  • At ١٥/٥/٠٥ ٩:١٧ م, Blogger Muhammad Aladdin said…

    انا يا ستي ما افترضتش انه حزين، أنا بس بكمل علي كلامك انتي.. و طبعا معاكي في اللي قولتيه

    و طبعا انت سيريال كيلر: قتلتي كام راجل يا بنت لغاية دلوقت؟ اتصور انهم كتير، و بيعدوا النجوم يا حرام
    :P :P :P

    علاء

     
  • At ١٦/٥/٠٥ ١٢:٣٧ ص, Blogger Ramzi said…

    I think I understand the distinction you are trying to make.
    But I want to point out a difference here between grim novels and grim blog postings.

    When you write a novel, you are conveying a story and the reader will not draw conclusions about you personally. Otherwise I will have to think that John Steinbeck was dreadfully depressed!

    But a blog is different. It's personal. I do infer from a sad post that, Eve lets say, was drawing on a moment of sadness when she wrote this particular note. That moment might be in the past or the present, but you must have had it in mind when you wrote (or actually typed) the sad note.

    It's like poetry. You can't write prose about love if love never consumed you, and you can't express sadness in a post if sadness never crept into your heart.

    You know what? I feel you care too much about what we think your blog reflects about you.

    I speak for myself at least when I say: let it go... it's your diary. You just happen to leave it on the desk every night and we curiously peek and read :)

    This is what I understood from your post today. If I have totally missed the point, forgive me (and don't try to correct me, because you don't owe me an explanation).

     
  • At ١٦/٥/٠٥ ١٠:٢٦ ص, Blogger Eve said…

    That's the difference between what we're saying: you think I'm writing a diary, I'm not. or else, it would be the diary of a seriously-melancholic and depressed girl, which I'm not.

    If I cared about what people think, I would have refrained from exposing my inner self till that extent. But I try to talk about the bad features more than the good ones; who knows? hoping maybe to get rid of them.

    This blog is not about readers; it's about me, getting to know myself and my capabilities better. You just happened to read :-) Oh, and sorry for correcting you Ramzi, but you don't expect me to remain silent when you're writing me all that :-)

     
  • At ١٦/٥/٠٥ ٨:١١ م, Blogger BLUESMAN said…

    سلام
    اتفق معك ايف بخصوص حديثك علي ان المدونة هي مسألة شخصية وليست لها علاقة مباشرة بالقراء
    اعتقد ان العديد من المدونات هي في الاصل عبارة عن مراقع شحصية علي الانترنيت يحاول اصحابها بشتي الوسائل تحقيق اكبر عدد من القراء وأكبر كمية من التعليقات بغض النظر عما اذا كانت تلك المدونات تشبهم ام لا
    مسألة أخرى لا اعتقد بأنه من الضروري عيش الحب من اجل الكتابة عنه نفس الشيء ينطبق علي الحزن
    بل اكثر من ذلك فهناك العديد من الكتاب الرجال الذي عبروا بروعة عن احاسيس النساء

     
  • At ١٧/٥/٠٥ ١٢:٥٠ ص, Blogger Eve said…

    فعلا ريحان.. في مطلق الأحوال مَن من الناس لا يحبّ ولا يشعر بالحزن؟ تكفي هذه المشاعر البسيطة للكتابة، دونما ضرورة لعيش قصّة حبّ عظيمة، أو الغرق في يأس شديد. بعبارة أخرى، يكفي أن تكون إنساناً، مع إضافة القليل من الملح والبهار.

     
  • At ٣١/٥/٠٥ ١:٣٨ م, Anonymous غير معرف said…

    كنت كلما قرأت قصة رائعة ازددت يقيناً أن هاجساً كبيراً ينتاب من يكتب مثل هذه القصص لحظة كتابتها ...
    و كثيراً ما شغلني التفكير بمثل هذه الهواجس فمن أين تولد الهواجس و متى و كيف لها أن تتحول الى قصص رائعة ...
    كانت الهواجس تشغل تفكيري و لكنني الأن و لأول مرة أفكر بالأشخاص الذين يحملون هواجسهم و يصنعون منها الروائع .. فمن هم هؤلاء و لماذا هم و ليس غيرهم و فيما إذا كانوا متشابهين فيما بينهم ....
    و لكني الأن أكثر يقيناً أنه ليس لكل واحد هواجسه الخاصة به .... و ليس كل من سيطرت عليه الهواجس صنع منها شيئاً رائعا ..
    و إن أكثر الهواجس تصنع من حامليها مجر مجانيـــن .....

     
إرسال تعليق
<< Home
 
About Me

Name: Eve
Home: Beirut, Lebanon
See my complete profile




Who Are You?

Free Guestmap from Bravenet.com Free Guestmap from Bravenet.com

الموووود

My Unkymood Punkymood (Unkymoods)

بعضٌ منّي... بعضٌ منهم
هفوات مبارح
هفوات بعيدة

على الرّف

dominique

Powered by

15n41n1
BLOGGER