البرد قارس هذه الأيّام. لم يحمل إليها طقس بيروت هذا القدر من البرودة قبلاً. على يقين هي من ذلك. أحكمت رَغَد إغلاق النّافذة، وهي تتساءل لمَ لا تَصدُق نشرة الأحوال الجويّة، ولو مرّة. تذكّرت كريم الذي أخبرها، مساء أمس، أنّه سيصطحبها إلى فاريّا في نهاية الأسبوع. لكن في حال استمرّت العاصفة على جنونها هذا، لا يخيّل إليها أنّ الطّرقات ستبقى سالكة. "يلاّ أحسن!". أفلتت منها الكلمات الأخيرة بمزيجٍ من العفويّة والتّأفّف. صحيحٌ أنّها بحاجةٍ ماسّة إلى الهروب من العاصمة، وأنّها تتوق إلى التّمرغ على بساط من خيوط الثلج، لم تعرف لها ملمساً منذ أكثر من سنتين، إلا أنّ قلبها يحدّثها أنّ في بال كريم كلاماً كثيراً ليست مستعدّة له.
بحركةٍ خاطفة، تستطلع صحيفة اليوم الملقاة في زاويةٍ من زوايا غرفتها. وبين ضباب الأحرف الباهتة، تقرأ الكلمات المتواترة نفسها: "حملة على المعارضة.. فريق عين التّينة.. القرنة.. القرار 1559..." ثمّ ماذا بعد؟ ماذا يريدون منّا بعد؟ لقد زرعوا فيها الاشمئزاز من وضع البلد، ومن يحكم البلد، ومن الحالة السياسيّة الرّاهنة التي تتلاعب بالبلد. تشعر أنّها مجرّد بيدق على سطح هذه الخارطة المحليّة بالذّات، وأنّ سائر الأطراف تحاول أن تنهش من لحم حصصها... تشعر أنّ الجميع ينفخون في وجهها مجرّد نفخةٍ واحدة، مُعلنين ببساطة: "كش مات!". تُلقي الصّحيفة من يدها بلامبالاةٍ يخالطها شيءٌ من القرف واليأس. "بلا أحلام وبلا بلّوط!". وما تلبث أن تفتح خزانتها، وتسحب منها كنزةً زرقاء سميكة كيفما اتّفق، وبنطلوناً أسود. تنظر في المرآة. تخضّب شفتيها على عجل، وقد تساءلت لوهلةٍ هل تترك شعرها منسدلاً أم تعصبه. لكن سرعان ما تعتمد الحلّ الثّاني، وقد فارقتها أيّ رغبةٍ في الاعتناء بنفسها هذا الصّباح.
- جدّتي، أتريدين شيئاً؟ إننّي خارجة. لن أتأخّر.
لكن قبل أن تسمع ردّ الجدّة، تطبع على وجنتها قبلةً سريعة، ثمّ تقبض على حقيبتها وتمضي.
إلى أين تراها ذاهبة؟ لا تدري. إنّما كانت تريد أن تخرج من البيت بأيّ ثمنٍ، من هذا القنّ حيث الجدران تكتنز من الرّطوبة ما لا يحفل به هواء العاصمة نفسه. واجهات المحال حولها تزدان باللون الأحمر، والدّببة الصّوفية الضّخمة، وبطاقات المعايدة، وما إلى هنالك من شعارات المناسبة المقبلة. تنسى نفسها لهنيهاتٍ أمام إحدى الواجهات، فإذا بالبائعة تدعوها إلى الدّخول وانتقاء هديّة مناسبة للحبيب المحظوظ. فتردّ لها رَغَد ابتسامتها المصطنعة بتكلّفٍ مماثل، وهي تفكّر: "مين فاضي يحبّ إنتِ التّانية!"
بعد قليلٍ، يرنّ هاتفها الخليويّ. كان الرّنين يعزف لحن أغنية فضل شاكر التي تحبّها. على عادتها، شرعت تنقّب في حقيبتها، بحثاً عن الهاتف الذي توارى في زوايا مجهولة، وهو لا ينفكّ يغيظها برنينه. "يييييي، بدّي إكسره!" - آلو، هاي سلام! - هاي يا بنتي! "سا فا"؟ شو هالطقس هيدا؟! وينك؟ - عم بتمشى. شارع بلس حدّ الجامعة. - هلّق وقت تمشاية يا مجنونة؟ بلا هبل واطلعي لعندي.
كانت تعلم أنّ معارضة سلام أشبه بجدلٍ بيزنطيّ. فما كان منها إلا أن قبلت على مضض، متوجّهةً نحو الشّارع المقابل حيث تقطن زميلتها. لقد مضت سنة وكلتاهما تعلّمان صفوفاً ابتدائيّة في مدرسة الحيّ المجاورة. هي تعطي دروساً في الجغرافيا والتّاريخ، وسلام تتولّى الرّياضيات. تجرّ قدميها كلّ صباحٍ إلى هناك، كارهةً، لتلقّن التّلاميذ أنّنا اخترعنا الأبجديّة، وصدّرنا الصّباغ الأرجواني، ولتخبرهم عن سجناء قلعة راشيا، أبطال الاستقلال، وعن العشرة آلاف وأربعمائة واثنين وخمسين كلم مربّع التي تكوّن هذا الوطن. بعبارةٍ أخرى، ما تعلّمته هي على مقاعد الدّراسة عينه. لم يتغيّر شيء البتّة. بفففففففف... كم تودّ أحياناً لو تفصح لهم عن حقيقة ما يجول في داخلها: "لو لم ترمِ مديريّة الآثار ملفّي على رفٍّ ما، لما انتهى بي الحال في هذه المهنة التي أمقتها، ووسط ضجيجكم الذي يدفعني إلى الجنون! ماذا تريدون أن تسمعوا؟ نعم، نشرنا الأبجديّة، ثمّ لم نعد نستطيع أن نقرأ كلمة. رائع، لا؟ ونحن اليوم نصدّر الشّباب بالآلاف. بضاعتنا الأحسن والأكثر رواجاً هم. نحمّلهم على جناح الطّائرات، ونلفظهم عند شطآنٍ أخرى. فإذا قرّروا الصّمود، وأصرّوا على البقاء- رغم أنف أرباب هذه الدّولة جميعهم- نظلّ ندوسهم تحت أقدامنا، كصرصارٍ بائس، إلى أن يرحلوا بعيداً، حتّى آخر فردٍ فيهم. ماذا تريدون أن تسمعوا بعد؟ أنّ المستقبل مشرق، والوطن يفتح لكم ذراعيه؟ طبعاً سأخبركم هذا، وهل لي غير ذلك؟" تُسكت الأفكار التي تعتمل في ذهنها، وقد أذهلها مقدار الألم الذي يعتصر قلبها. غير أنّها لا تستطيع أن تمنع نفسها من الاستئناف: "ما الذي نعلّمكم إيّاه؟ أنّ اثنين زائد اثنين يساويان أربعاً وأنّ روما عاصمة إيطاليا؟ فمتى، بالله عليكم، نعلّمكم ماهيّة أنفسكم؟ متى نخبركم أنّه، مهما جرى، مهما شوّهنا الشّمسَ التي تلفحكم نهاراً، وأطفأنا النّجوم التي تحتضنكم ليلاً، فلا تلوّثوا الوطن الذي أنجبكم بشتيمةٍ، ولا تطعنوه حتّى بكلمة. فهذي الأرض التّعبة لا ذنب لها إن أمعن فيها وكلاؤها حرقاً وتدميرا. هم لا يتقنون لغة الأرض الجديرة بالحبّ، ولا يعرفون كيف يغازلون سنونوات الرّبيع. فمتى، متى يدرجون لغة الأوطان في برنامجكم الدراسيّ؟"
في هذا الوقت، كانت قد بلغت بناية الأحلام حيث تسكن سلام. لم تكن تدري ما الذي كان يجول في بالهم حين أطلقوا عليها هذا الاسم. فلا تصدّع الجدران، ولا الشّرفات المجرّدة من الطّلاء، ولا بقايا آثار القذائف توحي بما يدلّ على أيّ حلمٍ من الأحلام. فتحت باب المصعد القديم الذي يحسب مستخدِمُه أنّه سيهوي به ما إن يلجه، وضغطت على الزّر السّادس. فأطلق المصعد خواراً طويلاً، ثمّ لبث ساكناً للحظات، قبل أن يستقرّ رأيه على التّحرك. لكن لم تكد تمضي ثوانٍ حتّى رجّ بها فجأةً، وخمد النّور الشّحيح الذي كان بالكاد ينير المكان. آخ، لمَ لم تتذكّر أنّ الكهرباء تنقطع في هذا الوقت؟ هذا ما كان ينقصها! أخذت تطرق الباب بضرباتٍ تنمّ عن استغاثةٍ وعنف، هي التي لطالما خشيت الاحتجاز في الأماكن الضيّقة. وحين أدركت أنّها محتجزة ما بين الطّابقين الأوّل والثّاني، حيث لا يلتصق بالجهة الأخرى من باب المصعد إلا الاسمنت الصّلب، أخذت تهتف بنبرةٍ هستيريّة: - سلااااااااااااام!
ماذا عساها تفعل الآن؟...
|