كنت قد شرعت بكتابة هذه الأقصوصة قبل أسبوعٍ تقريباً. هنا، أورد الجزء الثّاني منها. حين وقع الانفجار يوم الاثنين الماضي، تساءلت هل أغيّر فيها شيئاً. لكنّني عدت فقرّرت أن أتركها على حالها.
بعد لحظاتٍ معدودة، كانت الهلع قد أخذ منها كلّ مأخذ. باتت ضرباتها على باب المصعد أشدّ هستيريّة، تنمّ عن يأسٍ بالغ. لوهلةٍ، خيّل إليها أنّ كابوسها الأسوأ على وشك أن يتحقّق، وأنّها، هي الطّريدة البائسة، قد وقعت في شركه أخيراً. فعدا عن خشيتها من العناكب ومختلف أنواع الحشرات، ما من شكّ في أنّ رهاب الاحتجاز يتصدّر لائحة مخاوفها. بقيت على هذه الحال، تحت تأثير الصّدمة المفاجئة، لدقائق، قبل أن يبدأ عقلها المضطرب بالتّحليل: إنّها معلّقةٌ بين السّماء والأرض، في علبةٍ خشبيّة عمرها من عمر علي بابا وفانوسه السّحريّ على الأرجح... لا، ذاك علاء الدّين. مع من يجب ربط علي بابا يا ترى؟ لكن فيمَ تفكّرين أيّتها البلهاء؟!! يبدو أنّك بدأتِ بالهلوسة فعلاً. استعيدي رباطة جأشك. فكّري. لا بدّ من وسيلةٍ تخلّصك من هذا التّابوت المتحرّك، لا بدّ!... في خضمّ ذلك الوقت، أخذت قطرات العرق تسيل على محيّاها، بكلّ بطئها ووخزاتها، بكلّ برودتها وملوحتها، الملوحة التي تجعلك تدرك كيف يكتسب الخوفُ طعماً، والمرارةُ ملمساً خشناً. لكن أيّ خوفٍ هو هذا؟ أهي الخشية من القضاء في هذا الوكر، حيث تشعر أنّها مسلوبة الحريّة، تنادي سلاماً ليس موجوداً؟ أم هو الفزع من الظّلام، حين تخبو أضواء المسرح، ويقف الحضور الواحد تلو الأخر، ويحين وقت الرّحيل؟ لعلّها تملك الإجابة في قرارة نفسها، لكنّها، في مطلق الأحوال، تفضّل أن تدّعي الجهل. هكذا علّموها. وهكذا تنقل هي الدّرس بدورها... أمّا الآن، فليس أمامها إلا أن تترك جسمها ينزلق إزاء السّطح الخشبيّ، وتحاول أن تحشر نفسها على هذه الأرضيّة المغبرّة، لتتكوّر كقطّة ضعيفة، بانتظار شيءٍ ما.
فجأةً، تذكّرت الآلة الرنّانة في حقيبتها: يا لي من غبيّة، كيف لم أفكّر في ذلك قبلاً؟ وما كان منها إلا أن أمسكت بهاتفها الخليويّ على عجلٍ، وسارعت تطلب رقم صديقتها. لكن حدّث ولا حرج عن الخيبة التي حلّت بها، عندما طالعتها العبارة التّالية: "لم يعد لديك وحدات. ابتداءً من منتصف ليل اليوم، لديك فترة ثلاثة أيّام لتعبئة بطاقتك وإلا..."! - أعرف، وأعرف، وإلا سأفقد رقمي!
بعد أن تفوّهت بالكلمات الأخيرة، رمت الهاتف إلى جانبها بغضبٍ، وهي تعلّل نفسها أنّ سلام لا شكّ ستتّصل بها عمّا قليل، لتستطلع سبب تأخّرها. أخذت تجيل بصرها في أنحاء المكان المقفر، كمن يترقّب ساعة تتحرّك الجدران الأربعة نحو بعضها البعض، لتندمج في عمودٍ واحدٍ لا غير. كانت النّواحي الأربع مليئة بشتّى أنواع الكتابات والنّقوش والرّسوم، حتّى وسعها القول إنّ نقطةً واحدة لم تسلم من أيدي مستقلّي المصعد. يبدو أنّ هذه الآلة كانت بطيئةً جدّاً بالنّظر إلى تمكّنهم من نحت هذه الخربشات الطّويلة كلّها... أو لعلّ كثيرين غيرها سبق أن مرّوا بوضعها هذا؛ فأنفقوا ساعاتٍ طويلة، وربّما أيّام، في سرد رحلتهم داخل العلبة العتيقة، على غرار من توحّد في سجنه، وتوحّد سجنُه فيه، فأمسى العالمُ كلّه قضبانه، وبات لا يدرك ليله من نهاره... قرأت:
- سين وميم معاً إلى الأبد. هممم. أتساءل إن كانا ما يزالان معاً. أم أنّ الأبد مدّته مدّة اللحظة التي حفر فيها سين (أو ميم) جملته فوق اللوح المصفرّ؟ أو ربّما يدوم الأبد طيلة فترة الصّرخة التي هتف فيها الحبيبان: نحن معاً إلى الأبد. ففي تلك الثّواني المعدودات صدقٌ يجعل المرء يخال أنّه، فعلاً، يملك مفاتيح الأبد في يده. أبدنا هو إذاً تلك اللحظات التي ننعم بها الآن؛ هو فكرة بقائنا معاً لا هذا البقاء بحدّ ذاته؛ هو ذلك الاعتقاد السّاذج أنّ الحبّ سيقهر كلّ العوائق، بطريقةٍ من الطّرق، في يومٍ من الأيّام.
فوق هذه العبارة، تطالعها بعض الشّعارات الحزبيّة التي تؤكّد أنّ الزّعيم الفلانيّ راجع. لا يهمّ كيف ولا متى، لكنّه راجع. سيرتقي الغمام سلّماً إلى من ينتظرونه؛ سيخوض عباب البحار السّبعة، سيهزم الوحوش والأعداء والجبابرة؛ ويرجع. في مقابل هذه الأحرف المكتوبة بخطّ أسود كبير، حزبٌ آخر يؤكّد على أنّ قائده لم يمت. تمضي السّنون تلو السّنين، وصورته لم تزل صورة الشّاب الذي يناضل، كي ينتشل المقهورين من عذابهم ويعود، هو الآخر، كمخلّصٍ منتظر، لينشر السّلام على الأرض... غريبٌ هو تعلّقنا بصورة القائد الواحد. نؤمن به أكثر من إيماننا بالقضيّة التي يحملها. نسير في ركبه، ونردّد شعاراته، ونقتل باسمه، ونرتدّ عن ذواتنا من أجله، حتّى إذا ما أفل، أفلت معه آمالنا واضمحّلت. فلا نملك حينذاك إلا أن نجرّ أقدامنا، مطأطئي الرّأس، مكسوري الخاطر، نازفي الدّماء التي لم يتسنّ لأوردته أن تنزفها. وهكذا، نبقى ننتظر كمن ينتظر غودو في ظلمة الليل الحالك.
"سيكون هذا خبر الموسم، حين أخبر الجميع أين قضيت عيد الحبّ هذه السّنة. في الواقع، بعد التّفكير، لا أظنّ أنّ هذا يخالف توقّعاتي تماماً. كلّ ما في الأمر أنّ المكان أضيق ممّا تخيّلته؛ أمّا الرّفقة، والأفكار، والهلوسات فلا تخرج عن نطاق المألوف كثيراً".
بعد قليل، تناهى إليها عواء الجوع في معدتها. لنرَ ما في الحقيبة: محفظتها طبعاً، وبضع قصاصات قديمة تحمل أرقاماً لم تتّصل بها يوماً، وحزمةً كبيرة من المفاتيح، و... يا لحظّها، نصف لوحٍ من الشّوكولا... كيف يعقل أنّها تركته ينجو من قبضتها؟ فضلاً عن مرآةٍ صغيرة، ومنديل، وقلم رصاص... حمداً لله أنّها لم تتخلّ عن عادة وضع الأقلام في حقيبتها. سوف تكتب خواطرها الأخيرة، في حال لم يُكتب لها النّجاة من أزمتها، وستتركها لمن يسعفه الحظّ باكتشاف كنزها الورقيّ! ستكتب كلّ ما تريده، وكلّ ما يخطر في بالها. هه، من كان ليحسب أنّ هذا السّجن سيمنحها حريّةً من أسر معتقداتها، والأفكار التي لم تجرؤ يوماً على الإفصاح عنها؟ أرادت أن تخطّ على باب المصعد عبارةً تافهةً إضافية تشير إلى أنّها "مرّت من هنا"، لكنّها ما لبثت أن أمسكت بقصاصاتها الورقيّة، وشرعت تكتب:
- أنا الموقّعة أدناه، رَغَد باسِم عطا الله، أقرّ بأنّني كنت أفيض بالأحلام والطّموحات الواسعة. كنت أظنّ أنّني سأكشف النّقاب عن مغارةٍ تاريخيّة ما، أو أشارك في بعثةٍ جيولوجيّة وطنيّة، أو أساعد في استرجاع آثار بلدي الموزّعة هنا وهناك في أنحاء العالم. لكنّهم عيّنوني معلّمةً في مدرسةٍ على أبواب الهاوية، لأنّ أبي لا يعرف نائب دائرتنا. صحيحٌ أنّه صوّت له في الدّورتين الانتخابيتين الماضيتين، لكنّ نائبنا لن يضرّه خسارة صوتٍ واحد، مقابل أن يرضي جهاته الخاصّة. حاولت قدر إمكاني أن أحدث تغييراً. قرّرت أن أبقى هنا، وألا أسافر. أردت أن أمنح الوطن فرصة. قلت في نفسي إنّه ناهضٌ للتوّ من أزمةٍ بليغة، وإنّه يحتاج إلى وقتٍ لاسترجاع أنفاسه. قلت لا بأس، سأتحمّل قليلاً. لا داعي للسّهر كلّ يوم؛ ولا داعي لشراء معطفٍ آخر، فمعطفي الرّماديّ يكفيني. سأتحمّل، بل يجدر أن أكون شاكرة لأنّ وضعي أيسر من غيري بكثير. سأتحمّل؛ فإن لم يصبر كلٌّ منّا، كيف عسانا نخرج من هذه الحلقة المفرغة؟ لا، لا أقول إنّني نادمة على ما فعلت. كلّ ما في الأمر أنّني وحيدة، ويدي الواحدة عاجزةٌ عن التّصفيق. أمثالي يتساقطون الواحد تلو الآخر، وبتنا جنساً يوشك على الانقراض. هذا كلّ... كلّ ما في الأمر...
رفعت رغد رأسها. لقد انتهت المساحات البيضاء، ولم يعد من مكانٍ لتكمل خواطرها؛ مع أنّ ما تريد أن تقوله ما زال كثيراً، كثيراً جدّاً! حانت منها التفاتةٌ إلى ساعتها. لمَ لم يتّصل بها أحد حتّى هذا الوقت؟ ألم يشعر أحدٌ بوطأة غيابها؟ ألا يشكّل غيابها أيّ فرق بالنّسبة لأحد؟ ثمّ ما بال هذه البناية المهجورة، هل فرغت فجأةً من سكّانها المعدودين؟ لكأنّ الهواء بدأ ينفد من حولها. تعبٌ شديد يتحكّم بها، لم تملك إزاءه إلا أن تذهب في إغفاءةٍ طويلة، طويلة جدّاً.
- يا آنسة.. يا آنسة..
شعرت رغد بيدٍ تهزّها. ففتحت عينيها وهي تتلفّت من حولها بغرابةٍ وضياع. ثمّ نظرت إلى العجوز الواقفة عند باب المصعد. - يا آنسة، عودي إلى بيتك. ليس مصعدنا بفندق.
حين استعادت رغد رباطة جأشها، ضحكت ضحكةً خافتة، ثمّ وثبت من جلستها على عجل، وطبعت على وجنة العجوز قبلةً سريعة، قبل أن تدبر من حبسها.
- فندق! ها! باي! كلّ حبّ وأنت بخير!
رمقتها العجوز بنظرات استهجان إلى أن توارت رغد خلف المنعطف، وما لبثت أن هزّت رأسها متمتمةً: "يا لشباب هذه الأيّام!" |
It is interesting how u could combine many of the lebanese thoughts in one person and one situation....or we usually go thru many of these in one day...?
Is there a lot of "Connotations", with some mind squeezing we can figure them out...u could be a journalist...u have a sharp pen....
Nour - DXB, UAE