أخرجُ من المكتب. أغادر المبنى. الشّمس في عينيّ. أعرف أنّك في مكانٍ ما، تنتظر، وتنظر إليّ. ستتّصل بي الليلة. ستخبرني أنّك رأيتني أغادر المبنى؛ أمشي مشيتي الغريبة؛ وأتضايق من الشّمس في عينيّ. سأكون قاسيةً معك على الهاتف، كعهدك بي. ستكرهني كما تفعل دائماً. سوف تحاول أن تبحثَ فيّ عن صديقتك القديمة. سأقسو أكثر وأكثر وأكثر. سأجرحك كما لم أفعل قبلاً. ستختفي لأشهرٍ كما تفعل دائماً. وستعود، لأنّك تعود دوماً.
أمقت نفسي حين أكون معك. أمقتُ أنّك تُخرج منّي أسوأ ما لديّ، مع أنّك لا ترى إلا أحلى ما فيّ. أمقت أسئلتك التّافهة في ظاهرها، العميقة في باطنها. أمقت لهجتك الفرنسيّة النّاعسة، وصراحتك الزّائدة، وأسئلة أصحابي كلّما صادفوني معك: "ماذا أفعل مع غريبٍ للأطوار مثلك؟" أمقت حين تدّعي أنّك تعرفني جيّداً، مع أنّني لم أبح لك بمكنونات صدري قطّ. أمقت أنّني كلّما ابتسمت لك، تشبّثتَ بي أكثر؛ وكلّما أبعدتك عنّي، زدتَ منّي اقترابا...
كيف أفعل هذا؟ كيف أصغي إلى كلامك الذي لا يشبه الآخرين، وإلى "قصّة حبّك المستحيلة" معها، فتخالني الوحيدة التي تفهم لغة أحزانك؛ ثمّ كيف أستحيل هذا المخلوق البشع فجأةً، فأبني في وجهك حصوني المنيعة؟ تقول إنّني أنتقم من الدّنيا بك، وإنّ أحدهم غيّرني، لكنّني أبقى نقيّةً في نظرك. تسألني دوماً عن لون شعري في الآونة الحاليّة: أأشقر أم بنيّ أم ضارب إلى الحمرة، وتعاتبني إذا لم يعجبك ما أصبح عليه شعري... وأنا صرت أسمعك ولا أجيب، أو أتصنّع الاستماع وأومىء برأسي شاردةً.
تأخذني في رحلاتٍ طويلة على درّاجتك النّارية. تعرف أنّني أحبّ هذه الرّحلات، رغم خوفي الأوليّ من سرعتك الجنونيّة. نذهب إلى الأماكن التي كنتما تذهبان إليها أنت وهي. تقول لي: "هنا، مارستما الحبّ خمسين مرّة". نقطع أشواطاً وأشواطاً لتريني محيط منزلها، وغرفة نومها الزّوجية حين كانت تودّعك من على شرفتها صمتاً. تخبرني أنّك كنتَ تهديها كلّ يومٍ شالاً، لأنّ الورد يذبل، والشّال يصيّرك جزءاً من رائحتها. تجعلني أقسم ألا أخبر أحداً عن حكايتكما. تقول: "لأ، ما تركنا، هنّ ترّكونا..." تخبرني أنّها هي من علّمك الحبّ، وأنّك عشقتَ لأجلها أولادها. تقول إنّك تحتفظ في جيبك بأقلّ صورها بهاءً، لأنّ عينيها التّعيستين في تلك الصّورة لا تحدّثان إلا أنت. تغصّ وتقول إنّني لن أفهمك، فأنا لم أعرف معنى الحبّ حدّ الألم، وإنّني أصلاً امرأةٌ باردة، مقبلة من مجاهل سيبيريا. وأنا لا أجيب... فقبلك لم أرَ دموع رجلٍ من أجل امرأة قطّ.
ماذا أنا؟ أفقد هويّتي حين أكون معك... أكرهك؟ لا أكرهك؟ أكره نفسي؟ أبحث عن نفسي؟ آخر مرّةٍ كلّمتني، قلتَ إنّك لن تزعجني بعد اليوم، وإنّك ستبقى على بعد اتّصالٍ هاتفيّ إذا احتجتُ إليك. تعرف جيّداً أنّني لن أتّصل بك، حتّى لو احتجتُ إليك؛ لن أحتاجَ إليك. أعرف جيّداً أنّني سأشتاق، قليلاً، إليك. لكنّك ستعود في السّنة المقبلة. ستعود لتخبرني أنّك لا تفهم لماذا تعود. وستكون حلقتنا المفرغة من جديد. |
just beautiful..