على عكس ما قد يتوقّعه البعض، لم أزر الضّريح بعد. قد يكون هذا مدعاةً للغرابة، لا سيّما إن ذكرتُ أنّ دقائق معدودة بالكاد تفصل هذا المكان عن منزلي، سيراً على الأقدام. لا أدري ما هو السّبب. لعلّه الاعتقاد أنّ الرّؤية بالعين المجرّدة ستركّز، بالدّليل القاطع، ما يبقى الذّهن عاجزاً عن استيعابه. وهذه لحظة أحاول، قدر استطاعتي، أن أعاكس الأحداث وأؤجّلها، ولو إلى حين.
الليلة، كنت في تلك الأنحاء. الليلة، وقع نظري على المَشاهد، كما تراها من خارج علبة التّلفزيون. عندما تتسمّر أمام الشّاشات، يخال جزءٌ ما في داخلك أنّه يطلّع على أحداثٍ بعيدة، من زمنٍ آخر، يشبه زمن أفلام الرّعب ومشاهد العنف والحرب القديمة. عبثاً، يقول لك المراسلون الإخباريّون أنّ ما حدث إنّما حدث عند منعطف حياتك، على قابي قوس أو أدنى من مسرح حياتك اليوميّ. فتهزّ برأسك، وتخال أنّك فهمت، ولكنّك أبداً لا تفهم.
الحفرةَ العميقةَ لمحتُها. كان الليل قد خيّم قبل ساعتين أو أكثر، ولكنّني لمحتها. كغول أسود يربض في كهفه، ويتحيّن لحظة يغير على جمهور السّائلين الذين أتوا، مثلي، كي يصدّقوا. بعض من أشلاء السّان جورج ما زالت متناثرة على الأرض، كجثّةٍ لا يجرؤ أحدٌ على مسّها. تكاد بنيته الأمامية تتداعى، ولا من يرجّع صداها إلا الأبنية المقابلة، المشوّهة هي الأخرى. فندق فينيسيا عارٍ من زجاج نوافذه. ونسيم الليل باردٌ هذه الأمسية. وهو "بردان". غطّوه بحرامٍ بنيّ طويل يمتدّ من أعلى سطحه إلى بابه الأسفل؛ أحاطوه بالألواح الخشبية من كلّ جانب. لكنّه بقي شاحب اللون في نظري. حتّى "كافيه موندو" نفسه مريضٌ هو الآخر. ممنوعٌ على أحد أن يخترق نطاق الجريمة. كلّ شيءٍ هناك ما زال على حاله. حتّى السيّارات التي مضى على ركونها أسبوعٌ تقريباً. تفكّر: "هنا، حدث كلّ شيء... من هنا، مرّ الموكب. والرّكاب كانوا يتبادلون أطراف الحديث عن الجلسة البرلمانية الأخيرة على الأرجح. بعض الأشخاص يخرجون من المصرف البريطانيّ، ومشاةٌ يعبرون الطّريق، فيما آخرون فضّلوا التّنزه تحت شمس شباط التي تفاجئك، أحياناً، من بعد طول غياب..." وفجأةً، يصدح الدّويّ. تنتهي الحكاية. وينتفض الغول الأسود من باطن الأرض.
عودوا إلى بيوتكم. ماذا تنتظرون، لقد انتهت الحكاية! في الواقع، ننتظر ريشة رسّام. قلم تلوين. عشباً أخضر. ننتظر من يردّنا بالزّمن يوماً واحداً إلى الوراء. لا ندري حقيقةً ما ننتظر... نمتثل لما أمرتنا به أنفسنا. نعود أدراجنا. نوقّع على العريضة. نشعل شمعة. إلى الجانب، نقع على صورة لفتاة حلوة، اسمها ريما بزّي. ما زالت حلوة، لكن في الصّورة فقط. ثمّ حَلقة من أجل باسل فليحان، الرّمق الأخير أو الخيط الرّفيع الباقي، وحده، بعد ما جرى. ونبقى نسير، حتّى نبتعد عن ذلك المكان؛ نوليه ظهورنا ونبتعد مدبرين، عسانا لا نراه كلّما أغمضنا أعيننا، أو أشحنا عنه الأبصار.
لن نزور الضّريح اليوم. دعنا نعود إلى البيت. |
سلام
شخصيا أكرة زيارة المقابر فرائحة الموت تخيفتي
أما عن مكان الحادث ففي رأي أنك أحسنت صنعا بزيارته ففي جميع الأحوال رؤية الدمار أخف بكثير من من ابقائه في الذهن كمجموعة خيالات وصور ستظل تطاردنا مثل شبح
كما أن زيارة مكان الفاجعة أكبر دليل علي أن ليس هناك اي مجال للنسيان
من الضروري تجاوز الألم لكن لا يجب ابدا نسيانه حتى لا ندفع لا قدر الله نفس الثمن مرة أخرى
سعيد دائما بقراءتك