يبدو أيّها الأعزّاء أنّه وقت إخراج الأغاني الوطنيّة من أوكارها. "أحبّك يا جنوب"، و"يا حبيبي يا جنوب"، و"راجع يتعمّر هاللبنان اللي، يقصف عمرك، ما كانوا يعرفوا يعمروك ويخلصوا بقى".
يبدو أيضاً أنّه وقت للتّفكير والتّروي، ولاستيعاب الصّدمة التي، قبل يومين فقط، لم تكن قد شهرت بوجهها أمامنا. (لك أيّ وجه! لم تكن قد شهرت بذنبها حتّى.)
فلنراجع حساباتنا قليلاً. ما هي المشاهد المتوفّرة لدينا؟
- نزوح لبنانيّ بين المناطق، وحشود غير لبنانيّة عبر الحدود مع سوريا، جبهة المغادرة الوحيدة غير المحاصرة (مش مطوّلة هي كمان)! تقييم وقع المشهد: غصّة قوّية في الحلق، وتغيير القناة التّلفزيونية.
- مطار ذو حركة مشلولة. مشهد النّيران المتصاعدة من خزّانات الوقود. سماء بيروت في اللّيل. تقييم وقع المشهد: قدر عشرين صفعة، وضربة قويّة على الرّأس.
- بيوتٌ منهارة فوق أصحابها. عائلاتٌ أُبيدت بكامل أعضائها. جثّة في برّاد مستشفى. فتاة أغمضت عينيها إلى الأبد. تقييم وقع المشهد: سكاكين تنغرز في القلب.
- جسور مهدّمة؛ غارات متعدّدة، تهديدات بالجملة... التّقييم: وهل من داعٍ للسّؤال؟
آخر الأخبار؟ جورج ابن "أبو جورج" (هيدا دبليو بوش ما غيره) يعتبر أنّ كلّ هذا دفاعٌ مشروعٌ عن النّفس. والإسرائيليّون لا يتركون منطقةً تعتب عليهم. يستهدف حزب الله جنودهم، فيستهدفون رعايانا.
يدّّعون أنّ هذا خيرٌ لنا، وحفاظٌ على سلامتنا. من هذا المنطلق، هم "الأشرار" في هذه القصّة، وأفعالهم لا تغتفر. لا شكّ في ذلك.
ننتقل إلى الجزء الثّاني من المسألة. جزء الفارس المغوار الذي أقبل على حصانه الأبيض، واجتاح المخاطر، ليخلّص المظلومين، مهما كان الثّمن. أكرّر مهما كان الثّمن. وفي هذا الجزء، يتوجّب علينا أن ننتقي الأبطال. الأخيار، بعبارةٍ أخرى. هؤلاء الأبطال الذين جرجرونا إلى ما نحن غارقون فيه اليوم (بالمناسبة، يرجى من جميع الرّاغبين استخدام السّاحة اللّبنانية تحقيقاً لأغراضهم الخاصّة تسجيل أسمائهم على اللائحة والانتظار بالدّور. سوف يحين دور الجميع). طبعاً، لم يتمّ استئذاننا في شيء. ومن نحن لنقف في وجه الأبطال؟ (وإيه شو يعني لبنانيّي! لك روح يا شيييخ، بكرة منجيب لكم وطن غيره!)
إذاً هذه هي الرّواية الرّسمية. لكن، حسب رأيي الشّخصي، القصّة لا تحتوي على أبطالٍ من كلتا النّاحيتين. القصّة تتضمّن ضحايا... ضحايا كثر. وتتضمّن أيضاً مذنبين. حزب الله أذنب. لا شكّ في هذا. ميول حزب الله السياسيّة تمثّل جزءاً غير بسيط من اللّبنانيّين (لكن لا جميعهم). لا شكّ في هذا أيضاً. لكنّني أورد الرّواية الرّسمية لأنّ الوقت ليس وقت إثارة النّعرات الدّاخلية، ولا البحث في موضوع الحقّ معهم أم عليهم، أو "عيب عليكم كيف بتعملوا هيك" (مع إنّو: معقول راسكم؟ عن جد كيف بتعملوا هيك!!). الوقت وقتٌ لإيقاف الهجمات الإسرائيليّة على أرض لبنان بأسرع ما يمكن، ووضع حدٍّ لسقوط المزيد من القتلى والخسائر. أمّا بعد ذلك، فلكلّ حادثٍ حديث، ولكلّ حدودٍ ترسيم، ولكلّ صلاحيّاتٍ نطاقٌ معيّن. ومن هنا، ضرورة عدم التزام مواقف مشتّتة. ومن هنا اختيار الانحياز إلى لبنان، واعتماد صوت واحد. ومن هنا، الرّواية الرّسمية.
المشاهد ما زالت تتوالى على شاشة التّلفزيون. أكتم الصّوت. أتفرّج على بيروت مضاءة ليلاً. من غير صوت. مع بعض دمع. ما زالت تبدو جميلة. رغم كلّ شيء...
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.