"اللي عم يعملوه منطلق من مركز ضعف. إذا إنت واثقة فعلاً إنو الناس مؤيدينك، منّك مضطرة أبداً تاخدي هالأساليب: تقطعي الطرقات وتفرضي الإضراب بالقوّة!"
يأتيني صوتها من الخلف، وأنا أقف مجدّداً أمام نافذتي. أهزّ برأسي موافقةً، لكنّي لا أجيب. أكتفي بالنّظر إلى ما يجري في الأسفل، وأطلق تنهيدةً طويلة. بين يديّ، أحمل فنجاني السّاخن وأرتشف شراب الزهورات ببطءٍ. لا أشعر بالبرد، لكنّ سماء بيروت توحي اليوم بالغيوم والمطر... غيوم عقيمة ومطر.. غير أنّه لا يهطل. الشّوارع خالية من سيّاراتها اليوميّة، وأصوات صفيرٍ وتصفيق تتناهى إليّ من كلّ صنفٍ ولون؛ مجموعاتٌ كلٌّ منها ينادي الله الخاصّ به. أفكّر في الله الذي لم يعقد العزم على خوض معاركَ انتخابيّة، ولا انخرط في ترشيحاتٍ، أو تفضيلاتٍ حزبيّة. لا أدري لمَ تخيّلت دوماً أنّ الله سيكون حدّاداً أو نجّاراً، يجلس فوق منضدةٍ خفيضة، ويحفر وردةً من خشب داخل دكّانٍ منعزل، في شارعٍ خلفيّ. أبتسم ويخطر لي أن، حتّى والحال هذه، لهلّل فريقٌ لله الذي أغلق دكّانه وأضرب عن العمل، فيما أعلن الفريق الآخر أنّه يعمل ويؤيّد باريس 3 أيضاً. يأتيني صوتها مجدّداً. تسألني كيف وصلت إلى العمل اليوم. أخبرها أنّني مشيت. توغّلتُ في الأزقة. الأزقة مخصّصة لمن، مثلي، يهربون من الواقع إلى انسيابيّة المكان وحميميّته. وأنّني لوهلةٍ نسيت نفسي، وغنّيتُ "حبيبي خلصو الدّفاتر" وسط الشّوارع، وأنّ الأغنية ما زالت تسكنني، ولن أتخلّص منها حتّى عندما يشيد كلٌّ منهم بإنجازه الليلة. بمن أطلق الكميّة الأكبر من الدّخان. لم أخبرها ذلك كلّه. كأنّ الوقت دائماً ضدّي. والأشخاص. والشّوارع. والوطن. أو كأنّني أنا بتّ ضدّهم كلّهم. قفلتُ راجعةً إلى مكتبي. همست لحاسوبي بكلمة السرّ. تابعت العمل وأنا أدندن.
|
أما أنا، اخترت طريق الشمس. بدأت نهاري باكراً، قرأت كل الرسائل الإلكترونية، أجبتها، ونزلت إلى مدينتي القديمة – صيدا. بضع إطارات محترقة، وطرقات رئيسية مقطوعة، ولكن من تسكنه المدينة يعرف كل الطرق. السيارة مقابل القلعة البحرية، وصباح الخير أهلاً المعتادة. بضع اتصالات هاتفية، شكراً لله على التكنولوجيا. دخان الإطارات المشتعلة لا يحجب الشمس، ولا زرقة البحر، ولا رائحة القهوة.
اليوم – لم يصل الله إلى دكانه المنعزل ليحفر الوردة الخشبية، بل سلك زقاقاً إلى الحرية، ليرسم السماء بلا غيوم، والبحر بلا أمواج، والشمس بلا قيود، وليطرب من دندنة أطلقتها صبية على حاسوبها، ومن طقطقة أصابعها على لوحة المفاتيح.