الكثير من الأوراق القديمة في دُرجي. الكثير من الرّسائل وبطاقات المعايدة والخربشات التي لا تعني أحداً غيري. ودُرجي هذا مكان توقّفتُ عن زيارته منذ وقتٍ طويل؛ بقعةٌ منسيّة أفرغ فيها جعبتي، كلّما انتهت مرحلةٌ من مراحل حياتي، ثمّ أسدّ عليها المداخل وأمضي.
أمس، فتحته أثناء بحثي المجنون عن بطاقة هويّتي الضّائعة، وفطنت، في نهاية الأمر، أنّ كثيراً من هذه الأشياء القديمة يجب أن يؤول إلى سلّة المهملات. فما معنى أن أحتفظ بمنديلٍ كتب عليه أحدهم عنواناً ما؟ وما معنى بقاء علبة فارغة عمرها أكثر من خمس عشرة سنة لأقراص محلاة بنكهة التّوت؟ تفاهات بتفاهات.
في درجي، ساعاتٌ قديمة لم تعد تعمل، وقلم أو قلمان فاخران تلقّيتهما هديّة. لا أدري صراحةً لمَ لا أستعملهما. ربّما لأنّني لم أعد أكتب منذ وقتٍ طويل. فملمس القلم والورقة بات غريباً عليّ، والتّورّم الذي كان يصيب إصبعي الوسطى من فرط الكتابة أوشك على الاختفاء. في درجي كلماتٌ من أناس مرّوا في حياتي مروراً قصيراً، سواء في العمل أو في الحياة اليومية: هم نسوني على الأرجح، أمّا أنا، للأسف، فما زلت أذكرهم بسبب هذه الكلمات الصّغيرة التي خطّوها على عجل "لن ننساك.. ولا تنسينا.." بفففف! في درجي بطاقات معايدة ووداع؛ وقصائد حبّ رقيقة؛ ورسائل طويلة من صديقتي حين كانت تقضي أيّام الصّيف في تشيكيا؛ ودعوات لحضور زفاف مَن تزوّج مِن الأصدقاء؛ وقطع نقدية معدنيّة بقيت لديّ منذ رحلتي الأخيرة إلى لندن. فيه كللٌ صغيرة كنّا نجمعها من "خراطيش قلم الستيلو" كما كنّا ندعوها، وملصقات ملوّنة نربحها مع كلّ بسكويت "ريكو". فيه عزف لموسيقى البلوز، أدّاه أحد الأصدقاء وسجّله على شريط، كي يعرّفني إلى هذا العالم الذي لا ينفكّ يُسحره. فيه وردة جافّة، ودفتر مذكّرات يعود إلى العام 1989، خلّف فيه كلّ الأصدقاء والمعلّمين من أيّام المدرسة والجامعة كلمةً صغيرة. في درجي رسائل من فتاة كويتية راسلتها لفترةٍ لا بأس بها، اسمها بشاير. فيه سوار مكسور ومسبحة عاجية وروزنامات قديمة وطوابع وبطاقات جامعية وملاحظات شخصيّة وكلمات أغنية كنت أحبّها. فيه محفظة جلديّة لأبي، ودفتر صغير بخطّ يده... هو دفتر معاملات حسابيّة لا تهمّني، ولكنّ خطّه كان جميلاً. فيه أوراق لا أقوى على فضّها حتّى الآن. فيه عمرٌ مضى بعيد عنّي بعد السّماء عن الأرض.
ابتعدت مرتاعة. من هي صاحبة هذا الدّرج؟ أنا لا أعرفها. لا أعرفها بتاتاً. لا أدري كيف كنتها ولا كيف هي "كانتني"! خطر لي أن أغرف من هذا الكنز المزيّف قدر ما يتّسع له كفّاي، لأتخلّص منه بغير تفكير. لكنّني كنت أعرف، في طيّات نفسي، أنّ هذه العلبة الخشبيّة ستبقى على حالها حتّى لو قلبَ الزّمان صفحاتها الكثيرة، ولو دارت عجلة الحياة ألف دورةٍ على نفسها. سأتغيّر، نعم، لكنّها ستبقى شاهداً توقّف العمر عنده، وما زال متوقّفاً. أغلقت هذا الحيّز الواسع-الضيّق. ثمّ أمسكت بحقيبة يدي، فلاحت أمامي بطاقة الهويّة التي أنفقت السّاعات المنصرمة في البحث عنها. كانت أمامي طيلة الوقت. اختفت قرابة خمس عشرة سنة، صحيح، ولكنّها كانت أمامي طيلة الوقت. |
سلام
في موضوعك هذا اثارت انتباهي مجموعة من النقط
الأولى الاشارة الي موسيقى البلوز فكلما أقرأ هاته الكلمة يتغير نبضي
النقطة الثانية الحديث عن الكنز المزيف صراحة احزنني هذا التعبير
النقطة الثالثة تأكدك من العمر المتوقف
لماذا تتثير فينا الذكريات كل هاته الكمية من الحزن والحنين